“جمهورية العشائر” في بيئة حزب الله: معارك وثارات* سوسن مهنا

النشرة الدولية –

“يضع شالاً أسود اللون عاقداً طرفه، ويودع عائلته عازماً على أخذ الثأر، ولا يحل عقدة شاله إلا حينما يأخذ بثأره”، تبدو الكلمات السابقة وكأنها مشهد سينمائي يجسد مأساة القتل بين البشر، لكنها جزء من الواقع اللبناني، خصوصاً مدينة بعلبك أو الهرمل، إذ يكاد لا يمر يوم إلا ويذكر اسم المدينة ضمن نشرات الحوادث الأمنية في لبنان، إما قتل أو سرقة أو معارك بين عائلات المنطقة.

ولا يتوانى الأهالي عن استخدام جميع أنواع الأسلحة، بداية من الرشاشات وصولاً إلى قذائف الهاون والدوشكا وانتهاء بالـ “آر بي جي”، إذ أصبحت المنطقة مرتعاً للعصابات التي تخطف الأهالي الآمنين، واضعة إياهم ضمن دائرة القتل من دون رادع أو الاحتكام إلى قانون، مغلّبة العادات العشائرية على قوانين الدولة والقضاء، إذ ما زالت العائلات تتعامل بلغة الثأر ونيل الحق باليد ولغة القتل واستعراض القوة، وبشريعة حمورابي العين بالعين والسن بالسن.

الثأر ثم الثأر

وما زالت عادات الثأر متجذرة في المنطقة، بسبب أن بعض الأهالي لا يثقون بالدولة أو تمكنها من رد الحق إلى صاحبه، وبالتالي لا يستطيع صاحب الحق السكوت عنه، لأن ذلك يعتبر عاراً يرافقه مدى الحياة.

والحديث عن القتل ليس له مهابة في بعلبك، إذ يقول أحد الأهالي، “طريقة فض النزاعات تختلف بين المتخاصمين، بحسب الإشكال”، موضحاً “بالنسبة إلى العرض والشرف فلا يروي الثأر إلا الدم. أما الخلافات العادية مثل حق على المرور والحدود بين الأراضي أو النقاشات الحادة، قد تكون حول أي موضوع، فتؤدي إلى قتل أحدهم الآخر”، وهذا “حله بسيط”، وفق ما حكاه لنا الأهالي.

ولعل ما حدث نهار أمس الثلاثاء، حينما انتشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر شباناً من آل جعفر (عائلة بعلبكية) وهم مدججون بالسلاح خلال تجمع عائلي في المدينة، يؤكد ما يسرده أهالي بعلبك في أحاديثهم عن القتل في مدينتهم، وكان سبق هذا الاستعراض فيديو آخر لشبان من آل شمص (عائلة بعلبكية) استعرضوا خلاله أسلحتهم خلال تشييع أحد شبابهم الإثنين الماضي. هذه الاستعراضات سببها قتل مسلحين من عائلة جعفر شاباً من آل شمص في مكان عمله على خلفية ثأرية، وعلى إثر الحادثة شهد “حي الشروانة” في بعلبك توتراً كبيراً، وإطلاق نار كثيف وقذائف صاروخية ابتهاجاً.

جذور الخلاف

ويعود سبب الخلاف بين العائلتين إلى قتل عيسى علي جعفر بقلب مدينة بعلبك على يد شخصين من آل شمص، منذ سنتين. لكن جرى تسليم الجناة إلى القضاء حينها، وإلى مصالحة على طريقة أهل العشائر هناك، لتجنيب المدينة والمنطقة حمام من الدم. وبسبب سلطة العائلتين بين بوداي ودار الواسعة (مناطق في بعلبك)، أي أماكن سكنهم، وهي مناطق متجاورة، ظلت أبواب الثأر مفتوحة.

وحينها تعهد آل جعفر لعائلة شمص بالأمان، لكن مع هذا لم يسلم عباس شمص شقيق أحد المحكومين بالجريمة السابقة، فقتله أربعة أشخاص من عائلة جعفر بوسط مدينة بعلبك. واعتبر آل شمص، “أن ما جرى غدر قُتل فيه مظلوم لا علاقة له بما حدث منذ سنوات، إذ إن القتيل كان يرتاد محله منذ ثلاث سنوات، ولم يتعرض لأحد أو يتعرض له أحد، وذلك بعدما حُل الخلاف السابق حول مقتل ابن جعفر، وسُلم أخوا القتيل حقنا للدماء، وليأخذ القضاء مجراه في التحقيقات والحكم”.

وصدر في وقت لاحق بيان تلاه عدنان حسن جعفر، يأسف لما جرى بين العشيرتين الجارتين، ومعولاً “على حكمة أهلنا عشيرة آل شمص وفعاليات المنطقة والجهات السياسية لوضع حد لما حصل، ونحن مستعدون للتجاوب مع أي مسعى يؤدي إلى إنهاء ما جرى”.

أصابع الاتهام تشير إلى حزب الله

وتعتبر منطقة بعلبك بيئة حاضنة لـ “حزب الله”، ومعقلاً وخزاناً أساسياً له. من هنا يتساءل البقاعيون عموماً، وأهالي بعلبك خصوصاً، وفي ظل دولة مخطوفة، لماذا لا يتدخل “الحزب” لضبط الوضع الأمني؟ بعدما سيطرت المافيات وتجار المخدرات على المنطقة ومعابرها، خصوصاً معابر التهريب المنظم إلى سوريا، إذ يعيش الأهالي توتراً دائماً وخوفاً على أرزاقهم وأعمالهم، في ظل أوضاع اقتصادية كارثية.

لكن للقصة وجهاً آخر، إذ اتهمت عائلتا شمص وجعفر “حزب الله” بالتدخل لمصلحة الآخر. وانتشر تسجيل صوتي لشخص من آل جعفر، يطلب فيه أن يجري تبادله على أوسع نطاق، يقول فيه إن “بوداي” التي تشكل معقل آل شمص الأساسي تدين بولائها لحزب الله. وبالتالي فإن أي حادث أمني يقدم عليه آل شمص رداً على العملية الثأرية، يدان به الحزب، الذي يريد الدخول إلى حي الشراونة باسم عائلة شمص، ومن ثم استعادة سيناريو أحداث عام 1991.

وفي التسجيل تحريض لآل جعفر أيضاً على قتل كل من يدخل بلدتهم، سواء كان من آل شمص أم من حزب الله. ويؤكد أحد كبار وجهاء العشائر في منطقة الهرمل في حديث صحافي سابق، أن “الحزب” يلعب لعبة خطيرة مع العشائر، ولم يعد مقبولاً السكوت عن تجاوزاته التي فجرت الأوضاع، وهناك تمرد بكل ما للكلمة عليه. وعندما يقول آل شمص أو آل زعتير أو آل دندش أو أي عشيرة كبيرة أخرى، إنهم سيطردون “حزب الله” من الجرود، فإنهم يعنون ما يقولون، ولديهم القدرة على فعل ما لم يتصوره عقل.

أين الدولة؟

ويعود سبب الخلاف بين العشائر والحزب إلى تشكيل مسؤول البقاع الأمني مصطفى شمص وتسليمه مسؤولية الأنشطة الرياضية في البقاع كتدبير عقابي بحقه، بسبب تغطيته عمليات التهريب عبر الحدود، وتجار المخدرات، في مقابل الحصول على “خوات” كبدل مادي أو سيارات فخمة. ويتابع الوجيه أن إزاحة شمص جاءت بناء على طلب وفيق صفا بعد فلتان الأمور من يد الحزب.

ويواصل أن “الحزب” الذي أخذ ثقة البقاعيين والشيعة تحديداً، لأنه كان ينصف المظلوم وينصر الضعيف على القوي، أما اليوم فقد بات هو الظالم وحليف الظالمين والأقوياء، ويستقوي على الضعفاء. وأن الاشتباكات التي تجري في ما بين العائلات، هي بسبب انعدام وجود مورد مالي تعتاش منه، خصوصاً بعد سقوط الوعود الانتخابية بسقوط قانون العفو، الذي كانوا وعدوا به، وجاع أولادهم بعد حصارهم ووقف رزقهم من التهريب.

وسط كل هذه الأحداث، كانت الدولة الغائب الوحيد، إضافة إلى صمت نيابي ورسمي، وكما يحدث دائماً فإن الجيش يتدخل في عملية الصلح، وتقول إحدى وسائل الإعلام، إن قيادة الجيش تتعامل وكأنها عشيرة من العشائر، فإذا وقع قتيل في اشتباك بين الجيش ومطلوبين، يدفع الجيش “الدية”، ويصالح العشيرة التي سقط منها ضحايا، وهذا الأمر هو أشبه بعرف متوارث في المؤسسة العسكرية.

نقلاً عن موقع “اندبندنت عربية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button