أميركا التي تشبهنا… كثيراً* سوسن الأبطح

النشرة الدولية –

لوهلة تظن أنك تتابع انتخابات لبنانية. تقاربت المفردات إلى حد مفاجئ، والحوارات التلفزيونية صارت مألوفة كأنها تجري بيننا. تسمع عن «تزوير»، عن «انقلاب» يتم التحضير له، «سرقة أصوات» وهذا سوريالي، «تدخلات خارجية» وهذا أفظع، «عمليات احتيال»، عن محاولة اقتحام مناصرين مراكز فرز، عن طعون قدمها ترمب، ودعاوى قضائية بالجملة. ليست هذه الصورة الانتخابية لأميركا التي كانت مشتهى العالم، تجري على وقع موسيقات بهيجة وأغنيات وطنية حماسية، ورفرفة أسراب الأعلام الأميركية. يظهر المرشحان مع عائلتيهما، كأنهما طالعون من فيلم رومانسي ليس فيه سوى حب الأسرة وتضامنها، وعشق أميركا وحلمها. تبخرت الحوارات الدسمة، حول القضايا الجوهرية، تقزّمت المناظرات حتى بدت مشينة، يضطر معها مدير الجلسة إلى إقفال الميكروفون، كي يسكت المرشح عنوة. ليست هذه أميركا التي نعرفها!

ناخبون يصرخون محتجين وبينهم من يحمل السلاح: «أين صوتي؟» العبارة عينها، سمعناها في الانتخابات النيابية عام 2018 في لبنان. كان ينقص أميركا شراء الأصوات، وقطع الكهرباء لخلط الأوراق. يكتمل المشهد اللبناني، بإغلاق واجهات المتاجر في نيويورك وواشنطن بالمسطحات الحديدية خوفاً من شغب المخربين، هذا مشهد مقتطع من وسط بيروت، وخصوصية أردناها فريدة لحالتنا. ومثلها التخوف من أعمال عنف وتوتر بسبب مناصرين متحمسين حتى النخاع.

استقطاب حاد، وانقسامات بين أصحاب المال والفقراء، البيض والسود، كبار السن والشباب، المتعلمين والعمال، أهل المدن وسكان الأرياف، النساء والرجال. كل العناوين تصلح للاختلاف حين لا يوفر أولو الأمر وسيلة، كي ينالوا مقعداً. تلك عبئية صارت جزءاً من اللعبة الأميركية. غالبية الأميركيين يرون أنهم ذاهبون إلى ما هو أسوأ. وهم محقون. ترمب شكك أثناء ولايته، في كل شيء، بدأ بمصداقية الإعلام الذي استبدل «تويتر» به، وهذا سرعان ما خيب ظنه، لم يوفر «سي آي إيه» أو نزاهة «إف بي آي»، وطالت الاتهامات النظام الانتخابي برمته. طعن بكفاءة العالم الجليل فاوتشي، مدير المعهد الوطني للأمراض المعدية، الذي يفترض أن يصغي له بتمعن، و«كورنا» يقتل ألف أميركي في اليوم. جمهوريون يشككون من دون أي تردد، في نزاهة القضاء، ويتوجهون للقضاة بنداءات لتحكيم ضمائرهم بدل تغليب نزعاتهم السياسية. هل نتحدث عن أميركا؟ التشكيك في مؤسسات الدولة الرئيسية على هذا النحو، والترمبيون كثرة، له عواقب كبرى. وكأنما هدوء الحال صار متوقفاً على تغريدة من الرئيس يطلب من مناصريه، أن يتحركوا لتشتعل الساحات. كتبٌ كثيرة، سطرت، في الآونة الأخيرة، حول ترمب الذي غير العالم، وأميركا، إلى غير رجعة.

الانقسام كان سابقاً على ترمب، وجاء رئيس «أميركا أولاً» وسرّع في تبدل الأمزجة. لولا فتك الوباء بملايين الأميركيين، لما وجد الرجل له منافساً. كأنما في قلب كل أميركي ترمب صغير، يدغدغ مخاوفه. وما شراء 16 مليون قطعة سلاح، قبيل الانتخابات، إلا إشارة على قلق عميق كامن في النفوس، وإحساس بأن الأمن الذاتي مطلوب أكثر من أي وقت مضى. كان بمقدور ترمب، وهامش الأصوات ضيق إلى هذا الحد أن يكون كاسحاً. الوباء، جرف الأرواح والوظائف، وأخذ معه مصانع ومتاجر ومصالح كثيرة، وبعضاً ممن رأوا في ترمب مخلصهم. مع ذلك بقي صوت ترمب عالياً. تكاد تكون الانتخابات مجرد استفتاء: هل أنت مع ترمب أم ضده؟ جو بايدن، الغائب الأكبر، بلا حملة انتخابية فعلية، أو برنامج مغرٍ، أو جاذبية شخصية. كان يمكن أن تضع أي مرشح مكان جو بايدن لتحصل على النتيجة نفسها. سيبقى ترمب حاضراً لفترة طويلة بعد خروجه من البيت الأبيض، بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات. أحب الأميركيون فيه شعبويته، قدرته على إقناعهم بعظمتهم، وهم في غاية الأرق. غفروا له علاجه من «كورونا» الذي كلفهم 30 ألف دولار، في حين كانوا ينتظرون أياماً، للحصول على فحص للتأكد من إصابتهم. أميركا في حاجة إلى الشعور بالقوة والصلابة، وذلك سر ترمب، الرجل الناجح الذي جمع الثروة والثقة بالنفس والخطاب الذي يخترق قلوب العامة.

لكن ماذا تفعل بـ«كورونا» الذي نسف الحسابات. إنه «اللامتوقع الذي يأتي دائماً على حين غرة» كما ينبه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، وينتصر على اليقينيات بعبثيته. وهذا ما يفلت عادة من خطط المؤمنين بالأرقام والمعادلات الآنية.

ففي أميركا أيضاً، وهم يبحثون في سبب انقساماتهم، يتحدثون عن التأثير الكبير والمباغت لوسائل التواصل في رفع مستوى التجييش وتغذية التطرف، عن دور الإعلام المنحاز في رفع منسوب العنف، عن العادات الاستهلاكية التي عززت الجشع، عن فساد نظام تداخلت فيه المصالح المالية مع السياسية حد تسميم كل قضية. وعن دور كل هذا في جعل الخلافات أكثر حدة، والاصطفافات شرسة وعنيفة. يزداد الإحساس بالتماهي، حين نتأكد أن المشكلات التقنية تعطّل الفرز، في أميركا كذلك، التي ظنناها آلة لا مكان للعطب فيها. وتبين أنها تعاني من خلل في عمل البريد التقليدي، بعد أن خفضت ميزانيته، وأصبح بطء السلحفاة من سماته. لهذا تأخرت أصوات الناخبين في الوصول، وثمة أيضاً كلام عن أموات انتخبوا، وتلاعب ممن غيروا أماكن سكنهم. كل هذا من الخصوصيات اللبنانية. يضاف إليها تشكيك من قبل الديمقراطيين في المسؤول الأعلى للبريد الذي عينه ترمب، واتهامات له، بأنه هو من يؤخّر قصداً وصول بطاقات الاقتراع، كجزء من المؤامرة. يحق للبنانيين بعد كل هذا أن يروا في جو بايدن نسيباً لهم، ويطلقون عليه اسم يوسف بيضون، متمنين له التوفيق والنجاح في مهمته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button