تحوّلات شجرة الأرز تتشكّل في لوحات لبنانية… “تقطع” صوفية غنائية مُمجدة للديمومة على أرض منهكة

النشرة الدولية –

العرب –  ميوزا العراوي –

“ناطور لبنان”، هو اسم أُطلق على أشجار الأرز، نسبة إلى أساطير تروي أنّ آلهة الأرض هالها أن تترك جبل لبنان من دون حارس، فاتفقت على أن يكون “أرز الرّب” بخضرته الدائمة رصدا في هذا الجبل. وحضر هذا “الرصد” في لوحات الرواد من الفنانين اللبنانيين مكتسبا صفات جمالية مضاعفة أهمها الشموخ، حتى حضر الزمن المعاصر ليتحّول فيه الأرز إلى رمز يفيض بالميلودرامية في مجمل الأعمال الفنية اللبنانية الحديثة.

منذ أكثر من عشر سنوات كنت في رحلة إلى غابة الأرز في منطقة بشري اللبنانية. كان المطر الخفيف قد توقّف عن الهطول ليتيح الفرصة لشمس العصر الذهبية أن ترسل خيوطها العطرة في الهواء.

غادرت المجموعة لأسير موغلة دون هداية في الغابة، وما كانت إلاّ بضعة دقائق حتى بدأت أشعر بحضور أشجار الأرز تلك، وكأنها مُرافقة شخصية تحميني من أفكاري وتخفّف عني وطأة الحزن وتنهمر عليّ بحكمة عمرها المقدر بمئات السنين، وقد رأت من الأهوال ما رأت.

 

بين الجمالية والرمز

 

الخفة الفانتازية تهب اللوحات اللبنانية آفاقا مفتوحة وتجعلها خارج إطار التراجيديا الموشومة بالنهايات الحزينة
الخفة الفانتازية تهب اللوحات اللبنانية آفاقا مفتوحة وتجعلها خارج إطار التراجيديا الموشومة بالنهايات الحزينة

 

اليوم أستعيد تلك الذكرى المُوغلة في الوجدان أمام معرض فني أقامته صالة أليس مغبغب تحت عنوان “تلك الأرزة التي تقطع”.

معرض ضم أعمالا فنية مختلفة من تصوير فوتوغرافي وتجهيز فني ولوحات ومنحوتات ليست لفنانين لبنانيين فقط، بل شملت أيضا فنانين فرنسيين وبلجيكيين وإيطاليين.

واللافت جدا في هذه المعرض هو الاختلاف الهائل ما بين ما قدّمه الفنانون الأوروبيون واللبنانيون، ففي حين انشغلت معظم أعمال الأوروبيين بالتعبير عن جمالية الأرز، تماما كما في لوحات الفنانين الرواد اللبنانيين، جاءت أعمال الفنانين اللبنانيين المعاصرين مُظهرة للشق الوجداني والرمزي لشجرة هي خلاصة الأهوال التي تعرّضت لها، لتبقى “حية ترزق” في المخيال الفني التشكيلي والتصويري، وليست فقط واقعا في غابة من غابات لبنان المُعرّضة دائما للخطر.

وإذا كانت أشجار الأرز بارزة في أعمال الفنانين اللبنانيين من خلال خاصية صمودها المُطعّم بنبرة وجدانية لم تحضر في معظم أعمال الفنانين الأوروبيين، فقد حضرت خارج جدران صالة أليس مغبغب أعمال تشكيلية أخرى بلغت حدا كبيرا من التعبيرية الرمزية والغنائية أرست معالم خصبة لفن أدرك كيف “يُشخصن” الأرز، جاعلا منه كائنا ورفيقا قدريا بإمكانه أن يسير إلى جانبه “وجدانيا” كما سار إلى جانبي الأرز الحكيم والشامخ ذات يوم خريفي بارد.

نذكر في هذا السياق الفنانة ساندرا خير والفنان نبيل نحاس والفنانة نجلا حبيش، من خلال أعمال لا يمكن أن نصفها، على اختلافها في قوة التعبير والأسلوب الفني، إلاّ أنها أعمال ميلودرامية من الطراز الأول، مثلها كمثل تجربة التوغل وحيدة في غابة الأرز عند حلول العصر حتى وقوع الحزن، عند غروب الشمس تحت السيطرة.

أعمال هؤلاء الفنانين ليست درامية ولا تراجيدية بالرغم من الشحنة العاطفية الهائلة (على اختلاف درجاتها) الراشحة منها، وذلك لأن فيها “خفة” فانتازية تهبها آفاقا مفتوحة تجعلها خارج إطار الدرامية الجدية وخارج التراجيدية الموشومة بالنهايات الحزينة التي لا مهرب منها.

ثلاث تجارب

 

شجرة حفرت عميقا في الوعي الجمعي اللبناني (أعمال فنية لساندرا خير)
شجرة حفرت عميقا في الوعي الجمعي اللبناني (أعمال فنية لساندرا خير)

 

قدّمت الفنانة ساندرا خير لوحات أعطت فيها لأشجار الأرز وجوه بشر عاديين أو وجوه أيقونات وطنية مثل وجه فيروز. وجاءت أعمالها بعيدة عن عالم الفولكلوريات المُخفّضة دائما لنبرة وعمق التعبير الفني.

وقد ذكرت الفنانة في إحدى المقابلات الصحافية عن معرضها الذي قدّمت فيه لوحات الأرز أنه “لطالما تساءلت عن هويتنا اللبنانية وما يربطنا ببلدنا حتى في بلاد الانتشار. وعندما كنت أزور غابة الأرز في الشوف جاءني الجواب الشّافي، إذ لامستني ضخامة هذه الشجرة وجذورها التي تعود لآلاف السنين، فشعرت بتأثيرها غير المباشر علينا والذي لم نحاول يوما تفسيره”.

كما قدّم الفنان التشكيلي نبيل نحاس مجموعة من اللوحات ذات الأحجام الكبيرة تخطى فيها بمراحل تصوير أشجار عادية. إذ رفع فيها من مقام أشجار الأرز وصولا إلى الصوفية الغنائية المُمجدة للحياة والمُظهرة للانهائية للكون، مُغدقا عليها نثارا ذهبي اللون أوحى بأن مصدره “غير أرضي”.

والفنان نبيل نحاس حائز على وسام الأرز برتبة فارس من رئيس الجمهورية اللبنانية وحاصل على الباكالويوس في الفنون الجميلة من جامعة لويزيانا، أما الماجستير في الفنون الجميلة فقد أتمها في جامعة ييل في الولايات المتحدة حيث يقيم. له العديد من المعارض الفردية في أوروبا وأميركا ولبنان، كما شارك في معارض جماعية حول العالم.

أما الفنانة التشكيلية نجلا حبيش فقد نشرت مؤخرا على صفحتها الفيسبوكية أكثر من عشر لوحات لأرزات في أحوال وجودية و”نفسية” مُختلفة، جاعلة منها مدخلا إلى حميمية الذات ومنطلقا لذكريات، إما كتلك التي عبرنا بها وعبرت بنا كبشر بعد أن كُتب لنا أن نكون من اللبنانيين على عتبة واحدة من الانزلاق إلى الكارثة، أو كأفراد اعتصرتنا تجارب شخصية بعضها شهدت عليها أشجار أرز كتلك التي كست غابة بشري الساحرة بهدوئها وأسرارها.

وقد أعطت الفنانة لهذه اللوحات عناوين مُختلفة ومناسبة للأفكار والمشاعر التي أرادت أن تطرحها. من هذه العناوين “هالة الأرز”، و”أشجار الشفاء”، و”الأرزة الغامضة”، و”الأرزة الذهبية”، و”ورقصة أشجار الأرز” و”هبة من الله” و”الصراع ما بين الخير والشر”.

وفي هذه الأخيرة، بدت لوحة مُركبة وضعت فيها الفنانة شجرة الأرز بمحاذاة ساحة انفجار 4 أغسطس، فالتقيا في حدة التعبير إن من حيث ضربات الريشة أو من حيث الألوان التي غلب عليها اللون الأسود والرمادي. مجموعة لوحات لا تشبه إحداها الأخرى تألقت فيها الأرزة وتحدّثت الكثير ساردة أشواطا ومراحل من حياتها على هذه الأرض اللبنانية.

 

هبة غير أرضية بنثار ذهبي اللون (لوحة للفنان نبيل نحاس)
هبة غير أرضية بنثار ذهبي اللون (لوحة للفنان نبيل نحاس)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى