كيف يمكن لسهم واحد أن يقضي على قيمة المحفظة في لمح البصر؟
النشرة الدولية –
قديمًا قالوا: لا تختبر عمق النهر بكلتا القدمين، ولا تضع بيضك كله في سلة واحدة!.. هذه الحِكمة الشهيرة تلخص إلى حد كبير فلسفة إدارة المخاطر في سوق الأسهم هذه الأيام.. فببساطة إن المحفظة المكونة من 50 سهمًا تعرضك لمخاطر أقل من تلك التي تعرضك لها محفظة مكونة من 5 أسهم فقط، هذه هي فكرة ما يسمى بالتنويع.
ولكن أمام هذا النهج يظهر نهج آخر مضاد يثير تساؤلاً منطقيًا جدًا وهو: إذا افترضنا أنك ستكون محفظة تضم أفضل عشرين سهمًا في السوق من وجهة نظرك، فكيف يعقل أن تستثمر في أفضل سهم نفس المبلغ الذي تستثمره في السهم الذي يأتي في المرتبة العشرين؟ لماذا تضع أموالك أصلًا في الأخير في حين أنك متأكد من أفضلية الأول؟
ومن هنا تأتي الحكمة الشائعة في سوق الأسهم التي تقول: ركّز استثماراتك كي تصبح غنيًا، ونوّعها كي تبقى غنيًا. والفكرة هي أن المستثمر إذا تمكن من وضع أمواله في سهم أو اثنين مختارين بعناية، وحقق هذين السهم أداءً جيدًا، فيمكن للمستثمر أن يحقق ثروة معتبرة في سوق الأسهم خلال فترة ليست طويلة.
ولكن التحدي الذي يقف أمامه الجميع تقريبًا عاجزين: هو كيفية اختيار السهم المنشود من وسط الأسهم المتاحة في السوق، هذا يتطلب بذل وقت وجهد كبيرين لدراسة الشركات المدرجة والتأكد من سلامة موقفها المالي والتعرف عن قرب على طبيعة أعمالها، وحتى بعد فعل كل ذلك، لا يوجد هناك ما يضمن أن تحقق هذه الشركة أو أي شركة أخرى أداءً استثنائيًا من شأنه أن يضاعف ثروات المساهمين.
رغبة منهم في عدم هدر دم المحفظة بين الأسهم المختلفة المتاحة بالسوق، يفضل العديد من المستثمرين المراهنة على عدد محدود جدًا من الأسهم في قطاعات محددة جدًا أيضًا، وهذا بالضبط ما فعله واحد من أنجح صناديق الاستثمار في التاريخ، حين ركز استثماراته على نحو كبير في شركة واحدة، غير أن هذه الاستراتيجية كلفت الصندوق ومساهميه في نهاية المطاف مليارات الدولارات.
منذ تأسيسه في عام 1970، يفضل صندوق الاستثمار الأمريكي “سيكويا” اتباع استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى التفوق على مؤشر “إس آند بي 500” من خلال الاجتهاد في اختيار أفضل الأسهم المدرجة في المؤشر.
في هذا الصندوق، كان من الممكن جدًا أن يجلس محللو الشركة لأكثر من 10 سنوات يراقبون ويحللون ويدرسون أداء شركة معينة ينوي الصندوق ضمها إلى محفظته.
10 سنوات يدرس الصندوق فيها ويقابل العشرات من موظفي ومديري وعملاء شركة لا يملك فيها سهمًا واحدًا أصلًا! وطوال هذه الفترة لا يوجد لدى مديري الصندوق أي مشكلة في مراقبة ارتفاع سعر سهم الشركة وربما تضاعفه مرات ومرات بينما لا يزال هو منهمكًا في دراسة الشركة.
ببساطة، كان لدى مديري الصندوق قدر هائل من الصبر والانضباط؛ وذلك لأنهم غير مهتمين بالأرباح قصيرة الأجل ولا يرغبون أن تضم محفظة الصندوق سوى الأسهم التي يستطيعون الاحتفاظ بها لفترة طويلة من الزمن تحقق لهم خلالها عوائد تفوق عوائد المؤشر المرجعي.
واحد من الأسهم التي ضمتها محفظة الصندوق كان سهم شركة قطع غيار السيارات الأمريكية “أوريلي أوتوموتيف”، في العام 2004 عندما اشترى “سيكويا” السهم كان سعره يقترب من 19.84 دولار، ولكن بحلول نهاية عام 2017 بلغت قيمة السهم نحو 240 دولارًا، هذا الربح الهائل كان وراءه كم هائل من البحث والدراسة بذله محللو الصندوق تضمن قيامهم بزيارة 100 من متجر لقطع غيارات السيارات.
لكن أبحاث الصندوق المكثفة ونهجه الاستثماري القائم على التركيز وليس التنويع لا يؤديان إلى نهاية سعيدة في كل مرة، فبسبب سهم واحد ركز فيه الصندوق الجزء الأكبر من رأسماله، تعرض سيكويا لواحدة من كبرى الخسائر في تاريخ صناعة الصناديق الأمريكية.
في الثامن والعشرين من أبريل 2010 بدأ سيكويا في شراء أسهم شركة الأدوية “فاليانت فارماتيكالز” مقابل 16 دولارًا للسهم الواحد، وفي نفس العام ارتفع سهم الشركة بأكثر من 70%، وسرعان ما أصبح ثاني أكبر حيازة في محفظة الصندوق.
وفي خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2011 ارتفع سهم “فاليانت” بنسبة 76% إضافية، ليزيح سهم شركة “بيركاشير هاثاواي” – الذي ظل لأكثر من 20 عامًا يشكل الجزء الأكبر من محفظة الصندوق – إلى المرتبة الثانية، وبنهاية العام تمكن الصندوق من التفوق على مؤشر “إس آند بي 500” بأكثر من 10% لأول مرة منذ عام 2003.
بفضل سهم “فاليانت” كان سيكويا يحقق أداءً قويًا ساهم في زيادة الطلب من قبل المستثمرين على المشاركة في الصندوق لدرجة أن الأصول المدارة من قبل الصندوق تضاعفت ثلاث مرات تقريبًا منذ ضم هذا السهم للمحفظة.
كان لمديري الصندوق ثقة عالية جدًا في مستقبل “فاليانت” التي وصفوها بأنها شركة أدوية لا تنفق الكثير من المال على البحث والتطوير، وفي نفس الوقت تستثمر بقوة في تحفيز مبيعاتها، ولكن كيف لشركة أدوية لا تنفق على البحث والتطوير أن تحقق هذا الأداء المذهل في سوق الأسهم؟
بدلًا من استثمار أموال طائلة في البحث والتطوير، كان نموذج عمل “فاليانت” قائمًا على شراء الأدوية الموجودة بالفعل من الشركات الصغيرة ثم إعادة تسميتها وبيعها بأسعار أعلى، على سبيل المثال قامت فاليانت في عام 2013 بشراء عقار يستخدم في علاج التسمم بالرصاص.
كانت التكلفة الأصلية للعقار 950 دولارًا، ولكن الشركة قررت رفع سعره في عام 2015 بنسبة 2700% ليصبح 27 ألف دولار.
في سبتمبر من نفس العام، نددت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “هيلاري كلينتون” بهذه الخطوة قائلة في تغريدة لها على تويتر “إن التلاعب بالأسعار بهذا الشكل في سوق الأدوية المتخصصة يعد أمرًا شائنًا.. غدًا سأضع خطة لإلغاء هذا”.
في نفس اليوم هبط سعر سهم “فاليانت” وعلى مدار الجلسات الخمس التالية فقد السهم أكثر من 31% من قيمته، لتتم معاقبة الشركة بسبب ما اعتبرها كثيرون ممارسات غير أخلاقية.
ورغم قسوة التداعيات إلا أن الشركة لم تهتز كثيرًا خصوصًا أن رفع أسعار الأدوية يعد أمرًا شائعًا بقطاع الرعاية الصحية، مرت الأزمة بسلام إلى أن جاءت الكارثة الحقيقية بعد عدة أسابيع.
في 21 أكتوبر 2015 نشرت شركة “كريتون ريسرش” تقريرًا بحثيًا اتهمت فيه فاليانت بالاحتيال المحاسبي، وزعمت أن الشركة ما هي إلا “إنرون” جديدة، في ذلك اليوم خسرت فاليانت 40% من قيمتها السوقية، قبل أن تسترد جزءًا من خسائرها وتغلق على تراجع قدره 19%.
نتيجة لما يشكله السهم من حيز كبير في محفظة سيكويا، كان أداء الصندوق في ذلك الشهر أضعف بنحو 17.47% من أداء “إس آند بي 500”. في الواقع، حقق الصندوق خسائر قدرها 9.03% في حين ارتفعت قيمة المؤشر العام للسوق بنحو 8.44%.
لسوء حظ مستثمري سيكويا، قررت إدارة الصندوق زيادة حجم حيازتها في “فاليانت” الذي فقد أكثر من 50% من قيمته منذ صدور التقرير البحثي لأنها كانت مقتنعة أن هذا التراجع يمثل فرصة وأن سهم الشركة صاعدًا لا محالة. اشترى الصندوق 1.5 مليون سهم إضافي من أسهم “فاليانت” ليصبح أكبر مساهم منفرد فيها بحصة تقترب من 32% من أسهم الشركة.
بعد 8 أشهر من الدفاع المستميت عن “فاليانت” أمام مستثمري الصندوق الذين كانوا يشككون في مستقبل السهم الذي أصبحت أموالهم رهينة له، قررت إدارة سيكويا بيع كامل حيازاتها في شركة الأدوية المنكوبة، في غضون أشهر قليلة فقدت “فاليانت” أكثر من 90% من قيمتها.
على الجهة الأخرى، انخفضت قيمة أصول صندوق سيكويا – الذي كان ملء السمع والبصر في يوم من الأيام ومحط اهتمام كل المشاركين بالسوق – من 9 مليارات دولار إلى أقل من 5 مليارات دولار في غضون بضعة أشهر فقط.
سهم واحد فقط كان كفيلًا بتدمير واحد من أنجح صناديق الاستثمار على الإطلاق.