سلام الشرق الأوسط و”سانحة بايدن”…تبادل إقليمي للأدوار* عريب الرنتاوي
النشرة الدولية –
قراران هامان، اتخذتهما السلطة الفلسطينية الأسبوع الفائت، كان لهما وقع “المفاجأة” على الرأي العام الفلسطيني، وربما عند أوساط سياسية عربية وإقليمية مهتمة.. الأول؛ استئناف العلاقة مع إسرائيل من حيث توقفت قبل ستة أشهر.. والثاني؛ إعادة سفيريها إلى أبوظبي والمنامة، بعد أقل من عشرة أسابيع على قرارها بسحبهما من هاتين العاصمتين، احتجاجاً على قيامهما بتوقيع “اتفاقات إبراهام”، وولوجهما عتبة التطبيع الرسمي والمعلن مع إسرائيل.
القرار الأول، اتخذ بنتيجة وساطات عربية وأوروبية، قاد الأردن والنرويج الجزء الأكبر منها، توطئة على ما يبدو لفتح صفحة جديدة بين الفلسطينيين والولايات المتحدة، وفي مسعى لطي صفحة هي الأسوأ، في تاريخ العلاقات الأميركية – الفلسطينية، واستعداداً كما تشير المصادر، لإطلاق سلسلة من المبادرات والتحركات، التي تستهدف تشجيع الإدارة الجديدة، على إيلاء اهتمام أكبر بملف الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، والسعي لحله وفقاً لمرجعية “حل الدولتين”.
الأزمة المالية والاقتصادية التي اعتصرت السلطة الفلسطينية جراء وقف المساعدات الأميركية، وتوقفها عن استلام “أموال المقاصة” بسبب قرار إسرائيل اقتطاع ما يعادل رواتب الأسرى والقتلى الفلسطينيين، كانت سبباً إضافياً لدفع السلطة إلى تغيير مواقفها، ولم تكن الرسالة التي بعث بها “مفوض الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية” الجنرال كميل أبو ركن، والتي يعرب فيها عن التزام إسرائيل بالجوانب المالية، و”غيرها”، من الاتفاقات المبرمة، سوى “السلم” الذي ساعد الرئيس محمود عباس على الهبوط الآمن عن قمة الشجرة.
“العقدة” المتمثلة برواتب الأسرى والقتلى، أمكن حلها بالاستدارة حولها: الفلسطينيون سيواصلون دفع هذه الرواتب، ولكن تحت مسميات جديدة من نوع: الأسرة المحتاجة-الفقيرة، الأسر التي لا عائل لها، وسيجري النظر للمسألة من زاوية اجتماعية، وليس من زاوية ” سياسية-وطنية”، لطالما كانت مدعاة للفخر والكبرياء الوطنيين.
أما وعود بايدن وفريقه الانتقالي باستئناف العلاقة مع منظمة التحرير وإعادة فتح مكتبها في واشنطن، ومعاودة تقديم الدعم المالي للسلطة و”الأونروا”، فضلاً عن تجديد مواقفه الرافضة للضم والتوسع الاستيطاني والالتزام بـ”حل الدولتين”، فقد جعلت السلطة تستعيد رهاناتها على “المسار التفاوضي” من جديد، وأنعشت “أحلامها” بإمكانية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
هنا، يصبح القرار الثاني من باب “تحصيل الحاصل”، إذ لم يعد ثمة من مبرر للإبقاء على قرارات سحب السفراء من “الدول المطبعة”، طالما أن السلطة ذاتها، عاودت تعاونها وتنسيقها مع إسرائيل، فكانت الاستجابة الفلسطينية للمساعي الأردنية، سريعة للغاية، وتقررت عودة السفيرين إلى أماكن عملهما، بل أن ثمة ما يفيد بأن السلطة خلصت إلى نتيجة مفادها: أن “توظيف” التطبيع مع إسرائيل قد يكون أكثر جدوى من “مقاومته”.
لم تكن التطورات الأخيرة في المواقف الفلسطينية، لتحدث من تلقاء ذاتها، أو لتتفاعل بمعزل عن التداعيات التي أحدثها فوز جو بايدن في الانتخابات الأخيرة، على “البيئة الإقليمية-الدولية” المحيطة بالمسألة الفلسطينية.
فدول الاتحاد الأوروبي التي وجدت نفسها خارج اللعبة التي أدارها، جارد كوشنير، لطالما انتقدت المقاربة الأميركية الجديدة للقضية الفلسطينية، وهي وجدت في مجيء إدارة بايدن، “فرصة سانحة”، وربما تكون أخيرة، لاستنقاذ “حل الدولتين”، والعودة للاندماج في الجهود الرامية لتسوية هذا الصراع، بعد أن ظلت خارج حلبته لسنوات ثلاث انقضت.. الجهود الأوروبية، والوساطة النرويجية، كانت عاملاً رئيساً وراء الخطوات الفلسطينية الأخيرة.
إسرائيل من جانبها، وبعد سنوات أربع سمان مع إدارة ترامب، وسيل “الهدايا” التي منحت لها من دون عناء أو مقابل، والذي ما زال يتدفق حتى الآن على أية حال، بدأت تدرك أن علاقتها بالبيت الأبيض، ستدخل في العشرين من يناير القادم، طوراً جديداً، وهي إذ تسعى لبناء جسور الثقة والتعاون مع الإدارة الجديدة، فقد أظهرت استعداداً للتجاوب مع المساعي الأوروبية –النرويجية، وإعادة وصل ما انقطع مع الفلسطينيين، سيما وأن قراراً كهذا، لن يكلفها سوى التغاضي عن “الترتيبات الإدارية الجديدة” لملف الأسرى، في المقابل، فإن أموال الضرائب التي ستحولها للسلطة ستساعد الأخيرة على إدامة عمل مؤسساتها وأجهزتها الأمنية، وفي ذلك مصلحة كبرى لإسرائيل، وفقاً لتقديرات المستويين الأمني والسياسي فيها.
الأردن، بعد الفلسطينيين، ربما يكون تنفس الصعداء بقرب رحيل إدارة ترامب، صحيح أن العلاقات الأردنية –الأميركية لم تتأثر في أبعادها “الثنائية”، لكن الصحيح كذلك، أنه لم تكن هناك “كيمياء” بين الرئيس ترامب والملك عبد الله الثاني، والأهم، أن عمّان وجدت في “صفقة القرن” تهديداً لمصالحها وأمنها واستقرارها وهويتها على المديين المتوسط والبعيد، وأن دورها ومكانتها الإقليميين، قد تعرضتا للاهتزاز جراء إبداء هذه الإدارة استعداداً للتضحية بمصالح حليف استراتيجي كالأردن، خدمة لرواية اليمين الإسرائيلي ورؤيته لحل القضية الفلسطينية، ولدور الأردن في هذا الحل.
الأردن، يرى أن “سانحة بايدن” ربما تكون الأخيرة لتسوية المسألة الفلسطينية على قاعدة “حل الدولتين”، وهو سيعمل على استثمارها بكل حماسة، ولقد بذل مساعي مهمة مع السلطة، من أجل تهيئة المسرح لمقدم الإدارة الجديدة، إن لجهة استئناف التعاون مع إسرائيل أو إعادة السفيرين الفلسطينيين إلى المنامة وأبوظبي.. وليس سراً القول إن عمان ربما تكون العاصمة العربية الوحيدة، التي ما زال بمقدورها أن تتحدث مع رام الله، بكل شفافية ومن دون أية حساسية، فقنوات التواصل بينهما، لم تنقطع، وعلى مختلف المستويات، وهذا ما لم يتوفر لأي عاصمة من عواصم “الاعتدال العربي”، حالياً على الأقل.
القمة الثلاثية، الأردنية- البحرينية- الإماراتية التي التأمت في أبوظبي في الثامن عشر من الشهر الجاري، تندرج في إطار “تحضير المسرح” استعداداً لمقدم إدارة بايدن، فالدول الثلاث، تشترك في كونها وقعت معاهدات سلام وتطبيع علاقات مع إسرائيل، واثنتان منها (الإمارات والبحرين)، ترغبان في تطوير علاقاتهما مع إدارة بايدن، بعد سنوات من ازدهار العلاقة مع إدارة ترامب، وهما تتطلعان للعب دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين في عملية السلام، وقد أعلنت البحرين عن رغبتها هذه علناً، وعلى لسان الملك حمد بين عيسى..
أما الملك عبد الله الثاني، فعلاقته في أدنى مستوياتها مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، وهو إذ يستشعر قدرته على التواصل والتأثير على الجانب الفلسطيني، إلا أنه بحاجة لمن يتمتع بالقدرة على مخاطبة بنيامين نتانياهو، وهو ما وجده في ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، والعاهل البحريني..
كما أن الملك عبد الله الثاني، وجد في القمة الثلاثية، مناسبة لتجسير الفجوة بين السلطة الفلسطينية وكل من الإمارات والبحرين، ونجح في وقف “حرب الاتهامات المتبادلة” بين الأطراف الثلاثة، وثمة معلومات لم تتأكد من مصادر محايدة بعد، تقول إن الأردن نقل رسائل إماراتية للسلطة، بأنها لا تنوي العمل على دعم “قيادة بديلة” لقيادة الرئيس عباس، وأنها تنوي استئناف مساعداتها للسلطة واستثماراتها في اقتصادها.. وربما هذا ما شجع السلطة على الانتقال من خندق “مقاومة التطبيع” إلى العمل على “توظيفه”.
مصر بدورها، لم تكن بعيدة عن هذا الحراك، على الرغم من أن الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يشارك في القمة ولم يُدع إليها، وهي معنية كالإمارات والبحرين في فتح صفحة تعاون مع إدارة بايدن، التي تثير قلق القاهرة لانشغالها بملفات حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي.. المعلومات الأولية تقول: إن الدعوة المفاجئة التي وجهتها القاهرة لوفود من فتح وحماس، لاستكمال حوارات المصالحة القاهرة، والتي جاءت في توقيت متزامن مع القمة الثلاثية وقرارات السلطة بشأن استئناف التعاون مع إسرائيل، لم تكن “صدفة محضة” أبداً، بل هي فصل من “عملية تبادل إقليمي للأدوار”، يقوم بمقتضاها الأردن في “تدوير الزوايا الحادة” في الموقف الفلسطيني، فيما تضطلع الإمارات والبحرين بجهود مماثلة مع الجانب الإسرائيلي (أول زيارة لوزير خارجية البحرين لإسرائيل جاءت في التوقيت ذاته)، على أن تقوم مصر، باحتواء ردود أفعال الفصائل، عبر معاودة الاتصال بها، ودعوتها لزيارة القاهرة لاتمام مسار الحوار والمصالحة.
السؤال الأكثر أهمية، هو ذاك الذي دار حول موقع السعودية وموقفها من هذا الحراك، وعن سرّ غيابها على قمة تعقد على مقربة من الرياض، وتتصل بموضوع لطالما لعبت السعودية دوراً محورياً فيه: عملية السلام، وتقدمت بمبادرات لحفزه ودفعه للأمام.. لا تفسيرات من أية مصدر حول أسباب غياب المملكة العربية السعودية عن القمة الثلاثية، ولم يصدر عن الرياض، ما يمكن أن يساهم في توضيح الصورة، لكن مراقبين في المنطقة، قالوا إن المملكة في صورة كل هذه التحركات، وتدعمها وإن من وراء ستار، وإلا لما شارك ملك البحرين في قمة لا ترض عنها القيادة السعودية، وقد سجّل المراقبون تطوراً ملموساً في علاقات الرياض بعمان، بعد سنوات من الفتور والجفاء، تمثل في استئناف الحديث عن توجيه استثمارات سعودية للسوق الأردنية، ودعوة العاهل الأردني للمشاركة في اجتماعات قمة العشرين بوصفه ضيف شرف على القمة.
المراقبون يعتقدون أن المملكة مشغولة بملفات أخرى، وهي كما إسرائيل، تُعطي الأولوية لاستنفاذ كافة الفرص التي يمكن أن توفرها “لحظة الانتقال بين إدارتي ترامب وبايدن”، لاتمام بعض الملفات العالقة، أو لفرض وقائع جديدة في ملف إيران وحلفائها في المنطقة، حتى وإن جاءت في “ربع الساعة الأخيرة” لإدارة ترامب، ودائماً بهدف جعل مهمة بايدن بالانفتاح على إيران، صعبة للغاية، وهي لا تريد أن يصدر عنها، ما يمكن أن يشي بتخليها عن حليفها “الموثوق” دونالد ترامب وفريقه.. لتأتي الخلاصة بأن القضية الفلسطينية، تحتل مرتبة متراجعة في الحسابات والأولويات السعودية، أقله في الشهرين القادمين.
خلاصة القول، أن فوز بايدن في انتخابات 2020 الرئاسية، أطلق ديناميات جديدة في المنطقة بملفاتها وأزماتها العديدة المفتوحة، ومن ضمنها الملف الفلسطيني، على أن سيلا من الأسئلة والتساؤلات ما زال يجتاح أذهان المراقبين والمحللين: هل سيتملك بايدن الوقت والجهد الكافيين لمعالجة هذا الملف؟ وما ترتيب “عملية السلام” في حسابات إدارته وأولوياتها؟ هل سيلقي بايدن بثقل إدارته وثقل الولايات المتحدة للوصول إلى حل سياسي – تفاوضي لأقدم نزاع في الإقليم؟ هل تستجيب إسرائيل؟، وإلى أية حدود؟، هل يبقى نتنياهو في الحكم بعد رحيل ترامب؟، أم أننا سنرى تفعيلاً للمسار القضائي ضد رئيس الحكومة؟، هل تذهب إسرائيل إلى انتخابات مبكرة، أم أن بيني غانتس سيتولى رئاسة الحكومة وفقاً لاتفاقية التناوب بين الليكود وأزرق أبيض؟ هل تضيع “سانحة بايدن”، كما تبددت “فرصة كلينتون” و”لحظة أوباما”؟ أسئلة وتساؤلات، تصعب الإجابة عليها.. الآن على الأقل.