مئوية سويسرا الشرق على مذبح السرية المصرفية* سابين الكك

النشرة الدولية –

حمل نداء الأول من كانون الأول عام 1918 في القاهرة نواة دولة مشرقية الجذور بمعالمَ تجعلُها “#سويسرا الشرق”، هادفة إلى بناء مستقبلٍ مالي منشود على أكتافِ خليجٍ نفطي موعود في قِطرٍ سياسي مأزوم، فتوالت الصيغ الوطنية على قواعد النفي والنهي. سلبياتٌ كرَّست حِياداً لم يُطَّبق وسيادةً لم تولد، وأوجدت طوائفَ منغمسة إقليمياً حتى النهم وكياناتٍ تابعة دولياً حدَّ التناهي.

أطلق لبنان صناعة مصرفية حيادية المنشأ؛ تستهوي الودائع شرقاً وتحاكي الرأسمالية غرباً، وسرّية الطابع؛ تستقطب الثروات ضمانةً وتجذب الصفقات موطئاً. وقد تقاطعت عبر صناديق البنوك اللبنانية، بشكل كامل أو شبه كامل، دورة الحياة المالية في المنطقة على مدى سبعين عاماً.

اعتنق لبنان #السرية المصرفية عقيدةً سياسية بلقبٍ مالي. وجعلت هذه السرية من بلدٍ صغيرٍ ملاذاً آمناً لرؤوس أموال الكبار وصنّاع القرار، فكانت له المعقل السياسي المنيع، إذ خلقت حوله حصانة مالية، قوامها الرئيسي أرقام ضخمة في حسابات المتمولين والمستثمرين كما المضاربين والمتوارين والنافذين، الذين توّلوا، منفردين أو متحدين، رفع بطاقة “الفيتو-المعطّل” في اللحظات الحاسمة. وكان هذا النادي الحارس الأمين للزعماء الحاليين والسابقين، ليس لدافعٍ إلا لكون قطاعه المصرفي يؤوي ثروات رواده الطائلة التي فاقت بأشواط حجم اقتصاده.

وفي وقتٍ، بدأت الانشقاقات تحطّم جدار السرية المصرفية كارتدادات مباشرة للأزمة المالية عام 2008، إذ قرّر رؤساء دول وحكومات مجموعة العشرين التصدّي لحواجز هذه السرية المهنية، انطلقت دول العالم في رحلة المواجهات الشرسة مع الأهداف المشروعة. رحلةٌ شاقة ألزمت الحكومات والدوائر المصرفية والسلطات القضائية على إظهار أبهى ما تحمل سريتها المصرفية من مواصفات “النسبية”، في محاولة لمواءمة معاييرها مع متطلبات قواعد الشفافية والحوكمة. ومن هنا، باتت المقاربات القانونية لحالات تجاوز السرية المصرفية مضبوطة على مقياس المصلحة المنوي حمايتها، وصولاً إلى حدّ اجتياز السيادة الإقليمية والخضوع لإجراءات صادرة عن دول أجنبية أو مؤسسات غير رسمية، تقضي بالكشف والإفصاح عن معلومات مصرفية، يُفترض أنها خاضعة لغطاء الكتمان المهني.

بالموازاة، ومع تشظي الجدار العازل للحصانة المصرفية اللبنانية على وقع اتفاقيات التبادل الضريبي ومكافحة تبييض الأموال، استمر لوبي المصارف بالتحايل على المؤسسات الدولية، تحت غطاء الإشكاليات القانونية لرفع السرية المصرفية حتى انكشفت فضائحه المالية حاملة الانبعاثات الماكرة للطبقة السياسية الحاكمة، واضمحلت سمعته الائتمانية بفضل جنوح أهدافه الربحية. أما حاكمية مصرف لبنان التي تمنّعت عن تقديم المستندات والمعلومات، نجحت في إجهاض التحقيق الجنائي. ولكن، قواعد اللعبة تبدّلت، ومحاولات التلطي خلف سرية مصرفية، متصدّعة دولياً ومتآكلة ائتمانياً، لن تأتي بمنافعها المعهودة هذه المرة، بعدما، أنهت ثنائية السياسة والمال مآثر قانون 1956 التاريخية، قوّضت أسبابه الموجبة، هدرت الحقوق المحمية بأحكامه وقيّدت العمليات المكتومة بمفاعيله.

في احتفالية دولة لبنان الكبير، انفجرت فقاعة القطاع الأسطورة، فقُضيت معها مئوية كاملة من أوهام “سويسرا الشرق” ووقعت بالضربة القاتلة آخر معاقل حصانة الودائع الحارسة لهياكل الاقتصاد الريعي. وها هو سيناريو المجاعة الكبرى يقرع مجدداً البطون الفارغة على وقع طبول المطامع وضرب أطناب الجائحة. قصصٌ مَهيبة من مجاعةٍ دُفِنت أوجاعها خجلاً… نستعيدها منذ خريف العام 2019 في صورة من ذاكرتنا الأدبية رسمت وجع “امرأة شعثاء مستلقية على ظهرها والقمل غزا جسدها النحيل الذي تعلّق به رضيعها المتلهّف لقطرةِ حليبٍ لم تصل لشفتيه الباكيتين يأساً”… مصيرٌ مخيف من تاريخنا المنسي يبعثر مستقبل أولادنا، حاملاً بعد قرنٍ ونيّف، مآسي حصارٍ، بحري وبري قتل ثلث اللبنانيين عَوزاً وإهمالاً، فقراً واستبداداً، غلاءً وطغياناً.

دولة اخُتزلت كل أدوارها عن عبث أو عن خبث، بالسرية المصرفية، وأعلت شعار استراتيجية جذب رؤوس الأموال، عقيدة سياسية بالية توارثتها أجيال السلطة، فأتقن الجيل الأول فنونها وتسلّق الثاني على أمجادها، وتلاعب الثالث على أوتارها، حتى أعدم آخر ورثتها الوطن على مذبحها.

 

“الكك” أستاذة محاضرة في كلية الحقوق – الجامعة اللبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى