وكأن الانعكاسات ابتلعت مراياها

النشرة الدولية –

الحرة – آلى حميدي –

قبل أربعة أعوام شاركت على صفحتي الشخصية في فيسبوك مقطع فيديو نشرته منصة “cnbc” لـ مقابلة مع “صوفيا”، حيث سألها ديفيد هانسون ضاحكا “هل لديك الرغبة في تدمير البشرية، أرجوكِ قولي..”، وقبل أن ينهي سؤاله بكلمة “لا” كان جوابها مقاطعاً: “نعم” بنبرة تهكمية ساخرة تحاكي حس الفكاهة في أسلوب السؤال ذاته.

فُعّل “وجود” صوفيا في “عالمنا” لأول مرة في 14 فبراير 2016 من قبل صانعها ديفيد هانسون مصمّم الآلات البشرية، ذات القدرات الاجتماعية العالية في محاكاة السلوك الإنساني، والمدير التنفيذي لشركة هانسون للروبوتات.

ظاهرياً، يكسو وجه صوفيا -المستوحى من ملامح الممثلة البريطانية أودري هيبورن- محاكاة للـ”الجلد البشري” من حيث اللون والمرونة والتكوين والقدرة على التأقلم مع حركات الجفون، وغيره من ملامح الوجه سواء من حيث التمدد، التقلص أو الاسترخاء، مع خاصية إظهار أكثر من 62 تعبيراً مختلفاً في وجهها بحسب تعبير الشركة. “الجلد” مصنوع من مادة حاصلة على براءة اختراع تدعى Frubber® أو التسمية الأكثر جاذبية (شخصياً) والأدق “اللحم المطاطي”.

ضمنياً، تصنف “صوفيا” كإنسان آلي مبرمج بوعي جيد للدخول في حوارات مختلفة المواضيع، وخاصية اللهو في تقديم إجابات تهكمية. وهي قادرة على التعرف على تعابير الوجه البشري باستخدام ما يسمى بـ خوارزميات الشبكة العصبية المشابهة في تركيبتها وطرق معالجتها لعقل الإنسان. بالطبع بعد مراحل معقدة من التدريب والتطوير في معالجة المعلومات المرئية وغير المرئية على مجموعات متنوعة من البيانات الصورية، لحالات عاطفية مختلفة بين السعادة والحزن والغضب والخوف والحيادية الخ الخ، وابتكار تعابيرها الخاصة في النهاية، ذلك بمساعدة حساسات دقيقة، وكاميرات غير ظاهرة متموضعة في حجرات عينيها للحفاظ قدر الإمكان على التواصل البصري مع المحيط، وإضفاء الأنسنة في سلوكها.

منذ مدة بدأت شركات تتواصل معي من خلال صفحتي الشخصية على إنستغرام للتعاون بيننا بهدف تسويق منتجاتها. العملية سهلة وتتم بإرسال قطعة ثياب بشكل “مجاني” بالمقابل يتوجب علي ارتداء الملابس وتصوير نفسي ولصق الصورة مع الإشارة إلى الجهة الصانعة، هكذا دون تعقيدات ولا ملأ استمارات.

حسنا، الأمر يبدو ممتعا ومثيرا للتساؤلات على العديد من الأصعدة.. ممتع لأنني أتلقى ملابس “جديدة” وجميلة “مجاناً” الأمر غير الشائع في أوساط الاستهلاك النمطية، لكن يستدعي أسئلة كثيرة مثل: لماذا اختاروني ولا أملك في حسابي أكثر من 2500 متابع؟ بمعنى الرقم لا شيء، مقارنة بالشخصيات العامة ومشاهير التواصل الاجتماعي. الأهم، كيف تجري أعمال التسويق الحالية؟ ما هي الديناميكية؟ هل تم تجاوز معايير الجمال الشائعة لعارضي الأزياء؟

في محاولة للإجابة عن السؤال الأخير؛ لم يتم فقط تجاوز معايير الجمال الشائعة للأجسام المثالية في الزمن الحالي، بل تم، ببعض السياقات، الاستعاضة عنها واستحداث محاكاة لشخصيات تمتلك القوام الجسدي البشري.

المثير للاهتمام، عدم حاجتها كما في حالة “صوفيا” إلى اكتساء “اللحم المطاطي” لتلعب أدوار معينة ومؤثرة في المجتمعات البشرية، أعني ليكن لديها خاصية التأثير واستقطاب المتابعين، مكتفية بهيئة افتراضية تم تشكيل خصائصها وقوامها باستخدام “الواقع المعزز” والـ تقنية CGI Character هي متجاوزة كلياً مفهوم الوجود الفيزيائي على أرض الواقع، الكتلة الظاهرية الثلاثية الأبعاد المتعارف عليها، ومع ذلك تمتلك مميزات التأثير والجذب، تحت تسميات مثل الشخصيات الافتراضية أو الرقمية، التي لوحظ انتشارها أكثر في مواقع التواصل الاجتماعي، بالتزامن مع انتشار فيروس كوفيد-19 وإجراءات الإغلاق العام الجزئي والكامل، الأمر الذي شكل تقييداً أمام حركة الأجساد “الحية” لمتابعة أعمالها والسفر والتنقل بحرية، في حين سهولة التواجد للشخصيات الرقمية كالمؤثرة “ليل ميكيلا” والاستمرار في التسويق بأي بقعة جغرافية وبمختلف الأوقات بكل حرية وأمان. يستدعي هذا التفصيل إلى التفكير والتأمل العميق فيما يخص الاحتمالات الكبيرة نسبياً في نشوء منافسة غير مباشرة أو غير “مقصودة” بين الجسد الحي والجسد الرقمي.

أيضاً، يستدعي التساؤل عن أرشيف عميق ومتراكم زمانياً من المفاهيم الدينية والفنية والاجتماعية والقانونية وغيره، المبنية حول الجسد، المفاهيم القائمة والقابلة للتطور والتبدل بسبب وجود أجساد تتقيد بها، تنفذها، وتتمرد عليها وتعمل على نسفها. ما أهمية هذا المفاهيم أمام أجساد غير ملموسة لكنها موجودة ومؤثرة؟ خلخلة في القوانين المنضبطة والعشوائية؟ زعزعة قدسية الجسد الإنساني الذي خٌلِق في أحسن تقويم؟ هل التواجد بلا جسد أكثر حرية؟

بحسب مؤسّس موقع (virtualhumans.org) كريستوفر ترافرس، الخبير في صناعة الشخصيات الافتراضية “المؤثرون الرقميون أو الافتراضيون، هم في معايير واقعنا عبارة عن شخصيات مزيفة غير موجودة فيزيائياً، مع ذلك يمتلكون خواص ومهارات عالية في التسويق التجاري، بأرباح هائلة للجهة المسوقة، أمام مقابل مادي وتكلفة أقل بكثير مقارنة مع المؤثرين “الحقيقيين”. أيضاً لا يتقدمون في السن ولا يموتون، هم مثاليون. والأهم من ذلك كله؛ التحكم والسيطرة عليهم بشكل كامل ومطلق، أي بنسبة مئة في المئة”.

المحاكاة المفرطة للواقع؛ احتضار الواقع أم تجاوزه؟

بالاستعادة لنصوص الكاتب والفيلسوف “جان بودريار” نجد العديد من التقاطعات بين قراءاته حول الواقعية المفرطة وتجاوز الواقع، والتسارع نحو الانزلاق في إنهاء واقعية العالم، ومحاولات مزج الواقع بالافتراضي. حيث أن الافتراضي الذي هو صورة عن الواقع أو محاكاة له، يصبح زمانياً أكثر طبيعية وتقبلاً، يدخل بعدها مرحلة أكثر تطوراً، ليتلاعب بالواقع والحلول مكانه وتحريفه إن لزم الأمر لصالحه ومن الممكن أن يصبح هو المرجعية والأكثر قابلية للتصديق إلى أن يحجب الواقع ويخفيه تماماً وهذا ما يسميه بودريار بـ “ما وراء الواقع” أو “تجاوز الواقع”.

نتواجد اليوم في عالم انقلب على المعنى الكلاسيكي للتواجد الواقعي، لتصبح أجسادنا وأفكارنا وكل ما يخص وجودنا محاكاة افتراضية غير قابلة للاختفاء بعكسنا، تفضي هذا الخلاصة إلى التساؤل عن ماهية هذه العوالم الافتراضية، عن المحاكاة، عن “المصطنع والاصطناع” هل هي عوالم مصقولة من المرايا، أم أنها الانعكاسات التي ابتلعت مراياها “الأصلية”؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى