أردوغان.. رجل تركيا المريض – الجزء الثاني* مالك العثامنة

النشرة الدولية –

وقعت تركيا “دولة أتاتورك وما بعده” ضحية تاريخها العثماني رغم كل مقارباتها نحو الغرب “الأوروبي تحديدا”، وكذلك وبالمحصلة وبسوء التقدير وسوء النوايا أحيانا، كانت تركيا في تلك المقاربات أيضا ضحية تقلب المزاج السياسي “الأوروبي” وغطرسة بعض دوله المؤثرة.

واليوم، يمكن القول أن تركيا هي بين فكي كماشة لا ترحم، أحد طرفيها أوروبا بذات مزاجيتها السياسية، وكماشة الحكم الأردوغاني الذي يؤرجح الدولة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب في لعبة مصالح لا لتركيا “الدولة” بل لتحقيق مصالح رجب طيب أردوغان المتعددة والكثيرة والمتعلقة بالسلطة والسلطة فقط.

ويمكن التثبت من خلاصة الرؤية الأوروبية بتعطل فكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بعضوية كاملة وقد رسخت سياسات “الحكم الأردوغاني” مخاوف أوروبا التي كان يمكن تبديدها منذ عام ٢٠٠٥ لو انتهج الحكم التركي سياسة دولة تسعى فعلا لأن تكون دولة مؤسسات ديمقراطية بلا سلطة عسكرية مقلقة، ولا ديماغوجيا تستند على أسوأ ما عاشته تركيا في تاريخها: الحكم العثماني.

أوروبا ساهمت بصناعة الاستبداد الحديث وقد ارتدى ربطة عنق وبذلة أنيقة في أنقرة، والذي تشكل بفعل عوامل الطرد المركزي الذي مارسه الاتحاد الأوروبي منذ كان “جماعة أوروبية” معنية بالحديد والصلب، حتى اكتملت فكرته كوحدة إقتصادية وسياسية هي الأكبر في التاريخ الحديث.

كان خطأ أوروبا الفادح في مجمل علاقاتها مع تركيا أنها ظلت ترى “الباب العالي” في إسطنبول، منكرة واقع تركيا الجديد كدولة حديثة تسعى لترسيخ “علمانيتها وديمقراطيتها” عبر الانزياح القاري الصعب نحو الغرب.

المعادلة في الطرف التركي كانت بسيطة ومعقدة بنفس الوقت: الاقتراب من أوروبا يعني تفكيك سلطة العسكر بالضرورة ومع الوقت، وهذا يعني أيضا ذوبانا أكثر في دمقرطة المؤسسات والدولة.

الحجج التركية كانت أيضا متوفرة لدعم “أوربة” الأناضول: فمساحة ٣٪ من تركيا هي في طرف أوروبا الشرقي، وقد اعتبر الأتراك ( من خلال عيون أتاتورك ورؤيته) أن باقي المساحة الممتدة شرقا بعد ذلك ليست إلا امتداد طبيعيا لأوروبا.

واقتصاديا فإن تركيا ترى في نفسها جزءا حيويا من نظام السوق الأوروبي، في صادراته ووارداته وكذلك في استيعاب عمالته الوافرة والمؤهلة، والأهم استقطاب رأس المال الأوروبي للاستثمار.

وكانت الحرب الباردة سببا إضافيا جعل أنقرة ترى في أوروبا ملجأها الأمني الطبيعي، فاندمجت في حلف شمال الأطلسي بسهولة وفعالية، وكان الانضمام للاتحاد الأوروبي أمنية تركية أهم من عضوية الناتو بكثير.

تاريخيا، كان أول طلب رسمي تقدمت به تركيا الانضمام إلى “الجماعة الأوروبية” في نيسان عام ١٩٨٧، وبعد كثير من المد والجزر والتردد الأوروبي المستمر، وقعت أنقرة مع المنظومة الأوروبية الناشئة اتفاقية اتحاد جمركي (وفوائدها لا تزال منهمرة بوفرة على تركيا)، ويستمر الشد والجذب في التصريحات بين الطرفين حتى قمة هلسنكي عام ١٩٩٩، حيث قررت أوروبا ان تعطي املا كبيرا جدا لأنقرة فاعترفت بتركيا مرشحا رسميا للعضوية الكاملة فبدأت بذلك مفاوضات، بل ووضعت عام ٢٠٠٥ علامة نهائية للانضمام المتوقع.

ومنذ عام ٢٠٠٥، دخلت تلك المفاوضات مرحلة اليأس، وفي الأعوام الخمس الأخيرة ترسخت القناعة “أوروبيا” أن تركيا حتى بعد غياب سلطة العسكرتاريا التاريخية ليست مؤهلة الانضمام، فما هو أخطر من سلطة العسكرتاريا المناقضة لدولة المؤسسات الديمقراطية هو سلطة أردوغان الاستبدادية التي تلوح بعمامة الخليفة واستحضار العثمانيين مع إشعال النزاعات سواء بقضية اللاجئين، أو الاصطفافات الإقليمية ومؤخرا في المواجهة المباشرة في شرق المتوسط، وهي مواجهة كشفت عبثية الحكم الأردوغاني ومغامراته في علاقاته، وكشفت كذلك تاريخا مطويا من الظلم والتجني الأوروبي على الحقوق التركية منذ معاهدة سيفر، والرؤية الأوروبية القاصرة التي ظلت ترى في تركيا “خطرا عثمانيا” وجاء أردوغان ليرسخ الرؤية على سذاجتها.

كما انه من السذاجة كذلك الاعتقاد والتوهم بأن الإخوان المسلمين هم من يحكم تركيا، فسلطة أردوغان هي مزيج “سمي وقاتل” من قومية طورانية تتوسع بشرعية الباب العالي المقدسة، ويرى أردوغان تحقيقها من خلاله شخصيا عبر تحالفات لا تستقر وخاضعة لمزاجيته ومزاجيته فقط.

لم تكن السياسة الأوروبية “واحدة وموحدة” تجاه أنقرة، كما انها لم تكن ثابتة حد الاطمئنان، ومن أمثلة ذلك الانقلاب الفرنسي نحو أنقرة، فكان جاك شيراك بحكمته ( العميقة كرجل دولة ديغولي التأسيس) يرى في تركيا حليفا مهما لأوروبا وحائط دفاعها الشرقي مما يستدعي ضرورة التقارب للوصول إلى صيغة التحالف الأكثر مثالية. لكن في عهد ساركوزي “وهو المغامر سياسيا بكل الطيش الممكن” تنقلب السياسة إلى رفض كامل لتركيا، ووضعها موضع الشبهة الدائمة وفي خانة الخصوم.

ألمانيا، القطب الآخر في الاتحاد الأوروبي، كانت أكثر اعتدالا وتوازنا في العلاقات مع تركيا، ولأسباب عديدة ليس أقلها وجود الأقلية التركية بكثافة في الجغرافيا الألمانية، وخلو التاريخ المشترك بين الطرفين من مصادمات ومواجهات عسكرية أو احتلال جغرافي.

لكن أوروبا “بمنظومتها السياسية” أو بعقلها الأكثر عمقا تعاملت مع تركيا بمنطق معاهدة “سيفر” (١٩٢٠)، وغيرها من اتفاقيات ومعاهدات كانت أشبه بعقوبات دولية على تركيا العثمانية، وبأثر رجعي على كل تاريخ العثمانيين، انتهت إلى مواجهة أشبه باستحقاق تاريخي متوقع، في شرق المتوسط، لتجد أن الأزمات التي لم يعمل أحد على حلها في قضايا الحدود البحرية، وبقيت معلقة على ذمة معاهدات قديمة وظالمة، هي قنابل موقوتة وقعت في الأيادي “الخطأ” في أنقرة.

أردوغان، الرجل المنتشي بسلطته والمستمتع بلعبة التأرجح العبثي بين تحالفات لا تجد مستقرا لها في عهدته، لديه رؤية “غشيمة” بأن تلك المعاهدات يكفيها  وعود “شعبوية” بتمزيقها، وكان الأجدى بأنقرة ان تشق طريقا سياسيا للحوار حولها، وفتح ملفاتها دوليا وإقليميا بدبلوماسية كان أحمد داود أوغلو مثلا، قد بدأ بشقها على وعورة “العقل السياسي الأوروبي”.

إن تتبعا بسيطا لتحركات أردوغان الإقليمية تكشف أنه يمارس عملية تمزيق للمعاهدات السابقة عبر تحركاته، فالاتفاق مع حكومة الوفاق في ليبيا، والذي أثار حنق أوروبا، ليس أكثر من رد فعل بأثر رجعي متأخر جدا على أتفاقية أوشي (١٩١٢)، والتي تم توقيعها بين إيطاليا والدولة العثمانية في قلعة اوسي بلوزان، حيث انسحب العثمانيون من ليبيا، مقابل انسحاب إيطاليا من جزر بحر إيجة التي احتلتها، لكن إيطاليا لم تفعل، بل واحتلت ليبيا نفسها بعد ذلك.

يمكن لنا قياسا ان نتتبع كل المعاهدات التي وقعتها تركيا “العثمانية أو الأتاتوركية” ونطابقها مع سياسات أردوغان لنكتشف “سياسة التمزيق” لا دبلوماسية الحوار التي ينتهجها سيد “الباب العالي” الجديد، ليس بدءا من معاهدة أثينا مرورا بسيفر المهينة والمذلة فعلا، أو لوزان (١٩٢٣) ثم اتفاقية أنقرة والتي يحاول أردوغان بتمزيقها على طريقته أن يحتل الموصل كأرض تركية، أو اتفاقية مونترو (١٩٣٦)  والتي يحاول فيها الرئيس التركي إعادة السيطرة على المضائق والسيطرة على البحر الأسود، ثم معاهدة باريس (١٩٤٧) والتي أخضعت جزرا كثيرة في المجال الحيوي التركي لسيطرة دول المحور وتريد تركيا استعادتها.

كل ذلك، كان يمكن حله سابقا لو قبلت أوروبا بمفاوضات أو بادرت هي بالتفاوض مع تركيا في قضايا ترسيم الحدود البحرية ومعاهدات بحرية منصفة بدلا من التلويح بوثيقة غير رسمية امام أنقرة مثل “خريطة أشبيلية” وهي خريطة غير رسمية وضعها عام  ٢٠٠٠ أستاذ جغرافيا بحرية إسباني في جامعة أشبيلية واعتبرت (هكذا ببساطة) ان كافة الجزر في بحري إيجة والمتوسط ومهما كان قربها من اليابسة التركية جزرا يونانية لأنها تتمتع بجرف قاري يوناني (!!).

أوروبا لم تتبن الخريطة رسميا، لكنها ظلت على الدوام تدعم اليونان التي اعتمدت تلك الخريطة “الغريبة” رسميا كسند قانوني لمطالبها، مما يعني مثلا وليس حصرا – حسب الخريطة- ان جزيرة “ميس” التي تبعد عن أنطاليا التركية ٢ كم فقط، وتبعد عن أقرب نقطة يونانية يابسة مسافة ٥٨٠ كم، هي أرض يونانية لأن الخريطة منحت اليونان جرفا قاريا بمساحة أربعين ألف كيلومتر مربع. وعليه تصبح تركيا عاجزة عن المطالبة بأي ثروة طبيعية على مرمى شباك صيد من سواحلها.

السياسة الأكثر حصافة في التعامل مع أنقرة كانت في ألمانيا، التي حاولت ولا تزال تحاول أن تلجم مراهق الأليزيه النزق ماكرون، والذي يبحث في تصعيد أزمته مع تركيا عن مخرج آمن لأزماته الداخلية.

ألمانيا وعبر ميركل وإدارتها الأكثر خبرة تاريخيا في التعامل مع الأتراك (هناك طواقم مستشارين من أصول تركية بل وعربية يقدمون الرأي على الدوام)، استطاعت أن تميز بين الخصومة مع أردوغان وطموحاته العبثية، والحفاظ على مصالح الأتراك عبر التواصل مع الأحزاب الأخرى والمعارضة لأردوغان والمستعدة لسياسات أكثر عقلانية.

ألمانيا، أدركت أن أردوغان ليس تركيا، ولو أنها تعاملت معه على أساس أنه “كل تركيا” أو أتاتوركها الجديد، فإنها تقدم له خدمة بترسيخ مفهوم يسعى هو شخصيا إلى ترسيخه.

على أوروبا باتحادها ومنظومتها السياسية أن توحد دبلوماسيتها تجاه أنقرة ضمن سياسة حازمة لكن بلا ظلم، سياسة تحمل القيم الأوروبية التي شكلت منظومتها السياسية أساسا، لا قيم فترة الحرب العالمية الأولى الاستعمارية.

عليها ان تتعامل مع أردوغان بحزم يتناسب فعلا مع مغامراته العبثية التي تضر بتركيا قبل غيرها، ومع تركيا “الدولة” بتعامل الحليف والشريك المميز والمؤهل لأن يكون عضوا..ربما ذات يوم.

واستطرادا..

بعد قراءات كثيرة استغرقتني واستغرقت فيها عن تركيا وتاريخ مع جغرافيا الأناضول، كنت استذكر دوما قصيدة للشاعر الروسي بوشكين، يتحدث فيها عن روسيا، لكن وجدت قصيدته مناسبة تماما لتركيا، فاستبدلت كلمة روسيا بتركيا من قصيدة بوشكين والتي صارت تقول:

نعم..

تركيا هي الشرق الأقرب للغرب

نعم..

تركيا هي الغرب الأقرب للشرق.

وذلك لغزها الغامض..

غموض ليس فيه أي أسرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى