ذكرياتي مع فيروز* الشاعرة اللبنانية رانية مرعي
النشرة الدولية –
( الجزء الثاني والثالث والرابع)
لطالما كنتُ أسأل نفسي ، كيف تعرفُ فيروز ما يجري في منزلنا ! لا يكادُ شيءٌ يحصل إلّا ويكونُ طيفُها حاضرًا.. وصوتُها محمّلًا بالأحاسيس التي تجتاحُنا ولو خلسةً..
” يا جبل البعيد .. خلفك حبايبنا ” كانت أغنية الحنين التي تنشدها الرّباب كلّما اشتاقت لجدي المسافر .. وكنت لأواسيها أقول :” لا تحزني أمّاه ..والدُ فيروز أيضًا مسافر وهي مثلكِ تشتاقه ..” وسؤال أذكرُ كم أضحك أمي ومسحَ عَبَراتها عن وجنتيها ..” هل والدك ووالد فيروز صديقان .. هناك .. خلف الجبل البعيد ..؟ ”
وأذكرُ أنّي كنتُ أدّعي النعاس لأختليَ بصوت أمي ، لا لأسمعَ الحكايا بل لأنعم بوصلةٍ شجيّة من أغنية ” يلا تنام ..يلا تنام ..” وأنا ..لا أنام ! بل أمعنُ في السّهر لأستمتعَ بتلك النّغمات التي كانت تبرعُ في دندنتها ..
وللعيدِ في ذاكرتي زاويةٌ خاصّة.. فهناك وجوه كلّ أطفال العائلة .. كنّا نجتمعُ في بيتنا ليلة العيد .. أمهاتُنا يصنعْنَ ” المعمول ” وأنا كنت أرتّبُ الكراسي ليجلسَ الجميع وليسمعوني أنشدُ ” ليلة عيد ..الليلة ليلة عيد ” .. وما أجملها ليلةَ العيد ! ما كنّا لننامَ ونحن نحدّقُ في ثيابنا الجديدة.. فرحُنا الكبير في زمنٍ ..ليته يعود !
كلّ هذا الحب لفيروز .. ولم أكن أعرف ملامحها ، كنتُ أرسمها فتاةً بجديلة مع فستان زهريٍّ يشبه الفستان الذي خاطته لي زوجة عمي ..
وفي يومٍ ناداني أبي وقال :” عندي لكِ مفاجأة سارّة ..”
ألبستني أمي أجمل ما عندي ، ووضعَتْ وردةً في شعري القصير ..دائمًا !
دخلنا مكانًا واسعًا .. جلستُ مستغربةً أمامَ شاشةٍ كبيرة .. وأجزمُ أنّي عندما صرخت ” أمي .. هذا صوتها .. فيروز هنا ” سمعني كلّ من كان في سينما ” روكسي ” في قريتي الوادعة مشغرة ..
دهشةٌ رافقت كلّ دقيقةٍ من فيلم ” سفر برلك ” مع عدلا وعبدو .. والمختار الوطنيّ .. وأبو أحمد المقاوم .. وبحري الخائن ..
وفي تلك الليلة .. فهمْتُ لم أحببتها
كانت تشبه مشغرة .. كانت لبنان !
( يتبع ..)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( الجزء الثالث )
.. أحواض الجوري والياسمين .. وصباحٌ على شرفه منزلنا في مشغرة .. وفيروز !
” بقطفلك بس هالمرة .. هالمرة بس عبكرا ” .. وجدتي تروي بحبها ورودًا زرعتها ليس ” على تلال الشمس ..” بل هنا في دارنا ، وويلٌ لمن اقتربَ غازيًا !
كنتُ أقفزُ من سريري وأركضُ حافيةً لآخذَ نصيبي من عطرها المتثائب .. ولأراقبَ جدتي ومنديلها الأبيض ..
جدتي كانت كجدة فيروز .. تجلسُني بجانبها و ” تبقى ترندحلي أشعارا ” صيفًا شتاءً .. صباحًا مساءً .. وفي كلّ لقاء كنتُ أسمعُ العتابا التي برعت بها .. تلك المرأة التي لم تشبه يومًا أحد .. حتى الأغنية !
” ستي يا ستي ، شتقتلك يا ستي
علّي صوتك .. صوتك بعيد ”
كلماتٌ كنتُ ألقيها على مسامعها كلّما رأيتُها فتبتسمُ.. دائمًا كانت الشجاعة المبتسمة !
وأذكرُ أنّي سألتُها يومًا : ” ألا تحزنين ؟ ” فسارعت لِمسحِ دمعة الكبرياء وطمأنتني : ” إنها دمعة الفرح ” .. وكانَ ذلك الدّرس الأوّل في الحياة من امرأةِ الأسرار ..!
وينتهي الرّبيع .. ويأتي الثّلج ” ثلج ، ثلج .. عم تشتي الدني ثلج ” كنتُ أحزنُ على ورداتي وأعاتبُ جدتي التي لم تسمحْ لي بقطفها لأدفّئ بها قلبي الحزين ..
منذ صغري وأنا أخافُ من الشّتاء ومن مزاجه المتقلّب .. مع أنّني ابنة كانون ..
وما زالت جدّتي .. الشّجاعة المبتسمة !
وما زلتُ كلّما أذكرُها .. أقطفُ لها ياسمينةً .. أوشوشُها لتحملَ عطرَها إلى روحٍ نقيّةٍ مع اعتذار أنّي لم أبرّ بوعدي عندما حلفْتُ لها يومًا ألّا أكسر خاطر وردة ..!
” أم نايف ” ..جدّتي ، منها تعلّمتُ الكثير ..
ولها أقول : ” دوّنْتُ كلّ حكاياتك المنسيّة في دفتر ذكرياتي .. زوّادة لكلّ العمر ..”
” ستّي اليوم بعيدة .. وعم شوّحلا بإيدي ..
مشتاقة لأخبارا ..”
( ربما.. يتبع )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل تذكرون مثلي حبَّ الطّفولة… وتلك اللمعة التي تكشفُ براءتنا بوجنتين متورّدتين..؟
سرٌّ كان يشبهُ الرّبيع ، كلّما أخفيناه ازدادَ توهُّجًا ..
” لا تسألوني ما اسمه حبيبي
أخشى عليكم ضوعة الطيوب ..”
كنتُ أوافقُ على قرار فيروز .. ولكن ! لكثرة ما كنتُ أردّدُ اسمَه أمامَ أمّي كانت تضحكُ كأنّها تقولُ لي :” عرفته..” وكنتُ أُكملُ حديثًا عابقًا بأحلام فتاةٍ ، غدُها لقاء بصديقها الحبيب .. وحبيبها الصديق ..
” لو فينا نهرب ونطير مع هالورق الطاير
تنكبر بعد بكير شو صاير .. شو صاير .. ”
أمّا لقائي الأول مع مرآتي فكان يوم الحفل المدرسيّ ، كأنّني أرى نفسي للمرّة الأولى .. وقفتُ طويلًا أراقبُ ظلّي الجديد..
” قالت لي المراية
تغيّرتِ عليي
كبرتِ قبل الحكاية
وشفناكِ صبيّة ..”
هل صحيح أنّ الفتيات يختبئن في المرايا ؟!
ماذا تخطّطُ فيروز ؟ لمَ أرادت أن نبقى بفستانٍ زهريّ .. وجديلة مزيّنة بالورود ؟ ..
يومها ، مشيتُ كالأميرات .. صعدتُ درجَ بيتنا الطويل وأنا أفكّرُ بسندريلا .. والحذاء الضائع .. وإذا بصوت أمي يعيدني إلى الواقع وهي تهمسُ لأبي: ” انظر كم تبدو ابنتنا مختلفة ..! ”
استرقْتُ النّظرَ إليه ، لم يتكلّم ولكنّي شعرتُ بغيرةٍ تجتاحُهُ… ففاجأته بسؤال: ” هل أبدو جميلة؟”
في تلك اللحظة ، شعرتُ بخوفِ أبي .. فحملني ليقولَ لأمي : ” ما زالت صغيرة .. صغيرة جدًا ..”
ورقصتُ مع الصديق الحبيب بكلّ فرحي .. وغروري !
” أنا لحبيبي وحبيبي إلي
يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي
لا يعتب حدا ولا يزعل حدا
أنا لحبيبي وحبيبي إلي …”
وانتهت الحفلة .. وهاجر حبيب الطفولة دون وداع ..
واسيتُ نفسي بوردات جدتي ..
وما زلت أبتسمُ بملء القلب لتلك الذكريات !
ولأنّي وعدْتُ تلك الصغيرة .. ” لن أبوحَ باسمه ..حبيبها”
(يتبع ..)