لوحات سمير تماري تمزج بمرح بين الفلسفي والساذج
النشرة الدولية –
صحيفة العرب – ميموزا العراوي
“هجرة”، “الصياد الوحيد” و”منزل العاشق المستوحد” هي من عناوين لوحات الفنان التشكيلي اللبناني سمير تماري التي تبدو من بين العديد من لوحاته تصف عالما يبدو في ظاهره طفوليا وهو غير ذلك. عالم تلعب فيه خلفيات اللوحات دورا أساسيا في وصف وطن غرائبي لا الزمن فيه محدودا ولا الجغرافيا محددة. والمفارقة أنه في وسط تلك البقاع الملونة ذات الأجواء الطفولية التي يسهل على المُشاهد أن يتخيلها مُقتطعة من عالم واحد، يحضر هاجس الزمن وسرعة مرور العمر البشري، وكون الإنسان مُسيّرا أكثر منه مُخيرا.
وتأتي لوحته التي رسم فيها صبيا أمام خارطة أفعوانية مكوّنة من مسارات مُلتفّة ومحطات ترمز إلى مراحل الحياة الإنسانية الأكثر تقليدية؛ أي الولادة والدراسة والزواج والشيخوخة، لتختصر الكثير من الأفكار والمشاعر التي يطرحها الفنان في مجمل لوحاته وعلى مساحاتها اللونية التي تحاكي كل ألوان قوس قزح.
ويبدو الصبي في هذه اللوحة، التي يمكن اعتبارها مفتاحا للأفكار المطروحة في أعماله، مُحتارا في أمره أمام وضوح كامل لخارطة “اللعب”. إذ ليس اللغز في لوحة تماري (ليس في هذه ولا في سائر لوحاته)، هو المُبهم أو الغامض، بل هو الذي لشدّة وضوحه وفداحته بلغ حدّ العبثية في نكئه للجراح الوجودية، فما هو أمام هذا الصبي، تلميذ المدرسة، ليس “خيارا”، إذ يستحيل عليه أن يأخذ غيره. خارطة الطريق تقول له “نفّذ ثم اعترض حتى تدقّ ساعتك”.
يغيب هذا الصبي في لوحات أخرى ليطل مكانه رجل مُسن متورّد الخدين يرتدي في معظم الوقت دثارا منزليا، وهو يقوم بتصرفات أكثر صبيانية وحماسة من أيّ صبي آخر رسمه الفنان في أية لوحة أخرى. نراه يلعب ويركض و”يتشيطن” ويقف مخاطبا ساعة الحائط بغضب مُحبّب. أما ما يقوله لساعة الحائط فهو بالتأكيد مستوحى من العناوين التي أرفقها الفنان باللوحات وهي “الوقت يهرول” و”ماذا بعد أيها الزمن؟”.
لوحات الفنان اللبناني تشبه العالم الذي نعيش فيه اليوم؛ واضح ولكنه مُلتبس، ملوّن ومع ذلك حزين، طريف ولكنه درامي إلى أقصى الحدود.
ومن الواضح أن أهم ما يميّز نص تماري هو هذا المزج بين الفلسفي/ والساذج، وما بين منطق الفرح البشري وهشاشته التي يدركها شخوص لوحاته تمام الإدراك مع الوعي بعدم القدرة حيالها سوى التمرّس على ركوب أمواجها ضاحكين ومُبتلين بملحها حتى الاحتراق.
قد يرى الناظر إلى لوحات الفنان للوهلة الأولى، أن ما يصوّره من كوابيس بطعم العسل هو مجرد انشغالات أو “انزعاجات” طفولية مصيرها الزوال في السرعة التي تكوّنت فيها، ولكن المُتمعن فيها يجعله يدرك أن نوعية الخوف الذي يسكنها مُتأت من كونه خوفا جوهريا وبدائيا وفجّا، أي إنه خوف صاعق في تماس مباشر مع الحقائق الكبرى قبل أن تتقدّم مرحلة النضج بالإنسان، فيفلسف الأمور أو يملأها بانشغالات دنيوية “ناضجة”؛ كالزواج والإنجاب، وتُزيّن فيها الكوابيس الحقيقية بهيئات تجميلية تُنسي المرء بأن الحياة ليست إلّا لهوا، وأن كل ما ومن عليها فان، وتُنسيه أيضا هذه الحقيقة الخام: أحِبَّ من شئت فأنت مفارقه.
هل هي السوداوية في لوحاته؟ لا، قطعا. إنها محاولة اجتراح الفرح من صلب المأساة الإنسانية ومن دون مراوغة الراشدين. إنه استنباط الفرح المُنزّه عن اختراع الأكاذيب والأوهام. فالصياد عاشق، ولكنه وحيد وغير مُبال بما ستلتقطه صنارته. والعاشق كائن مُنمنم يسكن مساحة مفتوحة متورّدة، تكاد تُرى له تحركات، ربما هي عزف على آلة موسيقية أو قطف لوردة سماوية، وذلك قريبا من منزله الخشبي. أما الرجل المُسن فهو يفيض بالحيوية ونراه “يُعاكس” ساعة الحائط مُقتنعا بأنها قادرة على سماع اعتراضاته، لا بل شتائمه.
يُمكن وضع لوحات الفنان في ثلاث مجموعات مُختلفة، ولكن تحمل بصمة الفنان الخاصة. المجموعة الأولى وهي التي يمكن تسميتها بالتزيينيّة أي تلك التي يمكن أن يختارها المرء كي يُزيّن بها صالونه. وغالبا ما تكون هذه اللوحات تميل إلى التجريدية المُشبعة بلون أو لونين مع تدرجاتهما. والمجموعة الثانية هي التي ذكرناها آنفا، أي تلك المُشبعة بالأفكار الفلسفية والتي يظهر في معظمها الإنسان، صبيا كان أم كهلا، بحجم صغير جدا بالنسبة إلى ما حوله من مساحة لونية مشغولة بغزارة الضربات اللونية وتداخلاتها المُتشعبة والحسّية، والتي تذكّر بالنسيج الكتاني الخشن. لوحات نادرا ما نراها مأهولة بأكثر من شخص واحد. وهذا الشخص الواحد نراه وكأنه “ظهر” في خلفية اللوحة النابضة بحياة كامنة لا حركة صدامية فيها، بل هي متجانسة معها.
اشتغل الفنان على خلفيات لوحاته تلك بأسلوب ينسينا بأنها مجرد خلفية، حيث جعل منها أشبه بمادة أوّلية حيّة انبثق منها عالمه الفني، وليست مجرد مساحة استقبلت ألوانه سكبا أو رسما بخربشاتها المُبطنة ككتان غليظ.
أما المجموعة الثالثة، فهي التي لا تظهر أو لا “تتمظهر” فيها إحدى شخصياته، بل تحضر بقوة ووضوح. غالبا ما تخفت نبرة الخلفية في هذه اللوحات وغالبا أيضا ما يحضر فيها شخصان هما الصبيّ والمُسن في انشغالات طفولية يصعب النظر إليها بخفة.
في هذه اللوحات أيضا تحضر المرأة ويحضر الرجل وتحضر معهما مزروعة في ظهريهما “مفاتيح مُحركة”، كما في ألعاب الأطفال. مفاتيح تظل تدور وتُحركهما، حتى تنفد شحناتها فتحتاج إلى ضبط وشحن من جديد.
سمير تماري فنان تشكيلي من مواليد بيروت 1958، بدأ بالرسم في سن مبكرة جدا ليتابع دراسته لاحقا في الفن والإعلان. اشترك في العديد من المعارض خارج وداخل لبنان، كما له معارض فردية، كان آخرها في العام 2017.