بلدان الأدوار وبلدان “الحدائق الخلفية”* رفيق خوري
النشرة الدولية –
كان المسرحي الألماني برتولد بريشت يقول “ليست محظوظة البلدان التي تحتاج إلى أبطال”. والتاريخ يعلّمنا، من بين دروس كثيرة، درساً خلاصته: سوء الحظ هو قدر البلدان التي تضعها الجغرافيا في موقع “الحدائق الخلفية” لبلدان الأدوار. والأسوأ هو أن يكون بلد في وقت واحد “حديقة خلفية” لجار قوي و”جبهة أمامية” في صراع جيوسياسي بين الأقوياء.
لبنان في خانة البلدان الأسوأ حظاً. الكويت خانها الحظ مرتين: مرة في أيام عبد الكريم قاسم، وأخرى في أيام صدام حسين. فنلندا من بلدان سوء الحظ. المكسيك يصح فيها قول شهير: “مسكينة المكسيك كم هي بعيدة من الله وكم هي قريبة من أميركا”. بولونيا كانت “كعكة الملوك”. أوكرانيا وجورجيا وبقية الجمهوريات التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي لا تزال حدائق خلفية لروسيا. وكانت كذلك أيام القياصرة الذين قال أحدهم: “لا أشعر بالأمن إلا إذا كان جيشي على طرفي الحدود”. والبلدان الصغيرة في آسيا تواجه مصير الحدائق الخلفية للصين.
بلدان الأدوار ليست جميعاً قوى عظمى مثل أميركا والصين وروسيا وريثة الاتحاد السوفياتي وريث الإمبراطورية القيصرية لآل رومانوف. بعضها خسر الإمبراطورية واستمر يلعب دوراً في مستعمراته السابقة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. وبعضها الآخر تحرّكه أحلام الإمبراطورية القديمة مثل إيران وتركيا. أما إسرائيل، فإنها في طراز خاص من لعب الأدوار العسكرية والأمنية. أما مصر، فإنها خسرت جزءاً مهماً من دورها القيادي الذي لا يزال مطلوباً في العالم العربي. السعودية تتولى دوراً مهماً في الخليج والعالم العربي والإسلامي. وهناك بلدان كانت ملعباً فصارت لاعباً مثل سوريا أيام الرئيس حافظ الأسد وليبيا أيام معمر القذافي، ثم عادت “ساحة” بعد ثورات “الربيع العربي”. وبلدان كانت من أصحاب الأدوار مثل العراق، من أيام نبوخذ نصر إلى أيام صدام حسين، ثم صارت “ساحة”.
ذلك أن لبنان كان دائماً في نظر سوريا حديقة خلفية لها وقناة مالية واقتصادية ومصرفية مفتوحة على العالم. ومنذ استخدام المنظمات الفلسطينية له كممر للكفاح المسلح و”منصة” لإطلاق الكاتيوشا على إسرائيل، صار أيضاً جبهة أمامية لسوريا وإيران وأرضاً مفتوحة أمام إسرائيل التي قامت بأربع حروب وعملية اجتياح في العقود الثلاثة الماضية من القرن العشرين. والنتيجة حرب دائمة في لبنان، حارة حيناً وباردة أحياناً، و”منصة” صواريخ للدفاع عن إيران ومشروعها الإمبراطوري عبر “حزب الله”. لا مجال لبناء مشروع دولة. لا حكومة إلا بشق النفس. لا تجاوب مع المساعي الدولية والعربية للإنقاذ والخروج من هاوية الأزمات. ولا فرصة للعودة من مرتبة “الساحة” في صراعات المحاور إلى مرتبة “الوطن”.
فنلندا كانت ولا تزال محكومة بالوقوف على رأي موسكو في سياستها الخارجية، وحتى في بعض سياساتها الداخلية. المكسيك وكل أميركا اللاتينية حديقة خلفية للولايات المتحدة حتى قبل “مبدأ مونرو” في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ومن الوهم تصوير الجدار الذي أمر الرئيس دونالد ترمب ببنائه على الحدود مع المكسيك بأنه نهاية “مبدأ مونرو”. العراق، منذ الغزو الأميركي 2003، حوّلته إدارة الرئيس جورج بوش الابن إلى “قاعدة” لتغيير الشرق الأوسط بالقوة. ثم أصبح حديقة خلفية لإيران تتحكم بها ميليشيات الحشد الشعبي التابعة لفيلق القدس، مع “حيّز” صغير لأميركا. وسوريا، منذ “الربيع العربي”، لم تبقَ كما نعرفها بل صارت “ساحة” لخمسة جيوش روسية وإيرانية وتركية وأميركية على الأرض وإسرائيلية في الجو.
أميركا، بالطبع، صاحبة دور كبير في كل مكان تقريباً. وكل كلام رؤسائها على انسحابها عسكرياً من أماكن عدة بينها الشرق الأوسط وكلام الملالي في إيران على دفعها إلى الانسحاب من “غرب آسيا”، يبقى كلاماً في الهواء أمام الحسابات الاستراتيجية.
روسيا لم تعد تحصر دورها في ما تسميه “الخارج القريب”، بل توسعت فيه وصارت تلعب في سوريا وليبيا وقره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، وتوظف عند الحاجة “الصراعات المجمدة” بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي “خربط” الحدود بين جمهورياته.
تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان تحاول استعادة شيء من دور السلطنة عبر “العثمانية الجديدة” ومن خلال الإخوان المسلمين. فهي تحتل مساحات في سوريا والعراق وترسل عسكراً تركياً ومرتزقة سوريين إلى ليبيا، وتلعب في شرق المتوسط، وما تسميه “الوطن الأزرق” كما في أذربيجان والقوقاز وصولاً إلى بحر قزوين.
وإيران تلعب مباشرة وعبر ميليشياتها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وعبر “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في غزة.
أما بلدان أوروبا، فإن أدوارها محدودة في الشرق الأوسط وأفريقيا وأفغانستان.
واللعبة خطرة. بلدان الأدوار تربح وتخسر. بلدان الحدائق الخلفية تخسر دائماً. والعزاء في المثل الأفريقي القائل “ليس هناك سوء حظ من دون بعض الحظ”.