بريطانيا تعود إلى ماضيها!* Geopolitical Futures

النشرة الدولية –

بدءاً من 1 يناير، أنهت بريطانيا عملية انسحابها من الاتحاد الأوروبي رسمياً، فقد حرص الاتحاد على أن تطارد أسوأ العواقب البريطانيين، ومن المتوقع أن تواجه بريطانيا عواقب اقتصادية بارزة، لكن يصعب ألا تتأثر أوروبا أيضاً بانسحاب ثاني أكبر اقتصاد أوروبي. بريطانيا جزء تأسيسي من أوروبا وواحدة من الجهات التي شاركت في تحريرها خلال الحرب العالمية الثانية، ولطالما كانت بريطانيا قوة مؤثرة في أوروبا لكنها غادرت الاتحاد الأوروبي الآن، ولا مفر من أن تطرح هذه الخطوة تحديات كبرى على الاتحاد، فهو لم يعد مرادفاً لأوروبا بعد الآن، بل أصبحت بريطانيا اليوم مرادفة أخرى للقارة العجوز.

منذ الاستفتاء حول خطة “بريكست”، برزت مسألتان أساسيتان: هل يستطيع البريطانيون المعارضون للانسحاب من الاتحاد الأوروبي أن يقلبوا نتيجة الاستفتاء؟ وهل يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يغيّر هذه النتيجة من دون أن يبدو وكأنه يبالغ في استرضاء بقية أعضائه؟ بدا كأن هذين الطرفين يتعاونان معاً في مرحلة معينة لإعاقة “بريكست”، لكنهما فشلا في نهاية المطاف.

تتعلق المشكلة الحقيقية الآن بقدرة بريطانيا على إيجاد مكانتها في العالم، إذ لا تزال بريطانيا جزءاً من حلف الناتو الذي لا يُعتبر كياناً أوروبياً بالكامل مع أن معظم أعضائه أوروبيون، حيث تقدّم له الولايات المتحدة القوة العسكرية اللازمة وتُعتبر بريطانيا من الدول الأوروبية القليلة التي تملك قوة عسكرية بارزة ودرجة من النفوذ العالمي داخل الناتو.

التحالف البريطاني الأميركي أعمق مما يظن الكثيرون، حيث يشكل البلدان جزءاً من تحالف “العيون الخمس” الاستخباري، وهو عبارة عن التزام خمس دول (إلى جانب أستراليا وكندا ونيوزيلندا) بتقاسم المعلومات الاستخبارية، والتعاون العسكري بين هذه الأطراف مهم لكنه ليس خارقاً، ومع ذلك يُعتبر استعداد هذه الدول الخمس لتلقي المعلومات الاستخبارية التي تجمعها أي دولة منها استثنائياً فعلاً، إذ تمتد هذه الشراكة أيضاً إلى مجال التعاون العسكري، ويتناوب الكنديون والأميركيون على استلام “قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية”، وينشط الأستراليون في المنطقة نفسها بقدر الصين، أما نيوزيلندا، فتتقاسم معلوماتها الاستخبارية بكل بساطة لأن قوتها تبقى أقل مستوى من غيرها، وهي تفضّل تبنّي مقاربة أكثر حذراً. أخيراً، حاربت هذه الدول الخمس كلها خلال الحربَين العالميتين وصراعات أخرى.

عند التساؤل عن وضع بريطانيا اليوم، قد نسمع الأجوبة التالية: أولاً، تحتل التجارة أهمية كبرى لكنّ أسواق أميركا الشمالية كبيرة بقدر الاتحاد الأوروبي. ثانياً، لا يمكن توقع الأحداث في أوروبا كونها تشهد تقلبات متواصلة، لكنّ انتساب بريطانيا إلى حلف الناتو يبقيها داخل أوروبا وإلى جانب الولايات المتحدة، وهذا ما يمنحها الثقل الذي تحتاج إليه. أخيراً، يدفع تحالف “العيون الخمس” أعضاءه إلى التركيز على عامل يُعتبر أهم من أي شيء آخر: الحرب ومنع اندلاعها عن طريق الاستخبارات.

من المتوقع أن تنجح بريطانيا في احتواء المسائل المرتبطة بإيرلندا واسكتلندا وويلز، لكن لم تعد بريطانيا تحكم إمبراطورية عالمية. قد لا تستطيع التعايش مع أوروبا لكنها مضطرة للاصطفاف مع جهات أخرى، ولتحقيق هذه الغاية، يمكنها الاتكال على تحالف “العيون الخمس” الذي يُعتبر اصطفافاً استخبارياً وعسكرياً في آن ولا يمكن المساومة عليه، كذلك يبقى هذا التحالف فضفاضاً بما يكفي، مما يعني أن جميع أعضائه يستطيعون الاكتفاء بتقاسم المعلومات الاستخبارية، وقد تتحوّل تلك الدول الخمس أيضاً إلى قوة لها ثقلها وسوق مشتركة يمكن تطويرها بسهولة، وقد تبدي جميع الدول اهتمامها بهذا التحالف في نهاية المطاف، ومع ذلك، من الأفضل ألا نبالغ في توقعاتنا الإيجابية لأن الخلافات تبقى جزءاً أساسياً من جميع العلاقات، لكن سبق أن نجح هذا التحالف في ترسيخ مكانته، لذا تقضي الخطوة المنطقية المقبلة بتوسيع نطاقه كي يشمل المجال الاقتصادي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى