العلا.. في عيون غريب* نادين خماش
النشرة الدولية –
“ستسافرون إلى العلا غدا صباحاً”.. لم يكن من وقت للتفكير بوجهة السفر بقدر ما كانت التجهيزات والإجراءات والتدابير المنزلية والحياتية اليومية هي السائدة في هذه اللحظة التي تم إبلاغي بها بقرب مهمة جديدة ومغامرة أخرى.
وبين إجراء وآخر، أدخلُ محرّك البحث “غوغل” للتعرف ولو قليلاً وسريعاً على هذه الوجهة. تنقلت بين معالمها الجغرافية “افتراضياً” في الساعات القليلة المتبقية قبل شد الرحال والسفر إلى شمال غرب المملكة العربية السعودية.
رافقت فريق عمل العربية المكوّن من صحافيين وفنيين وتقنيين بين مخرجين ومصورين ومهندسي إضاءة وصوت ومعدّ ومنتج نشرات من دبي مباشرة إلى أرض العلا. ثلاث ساعات مدة الرحلة التي انتقلنا فيها إلى محافظة العلا التي تعاقبت عليها حضارات وممالك من نهاية القرن التاسع قبل الميلاد مثل الدادانية واللحيانية، فظهـور الممالـك في جنـوب الجزيـرة العربيـة ونشـأة الخـط التجــاري المنفتح مع مختلــف بقــاع الجزيـرة والحضـارات المجـاورة لهـا كحضـارة بـلاد الشـام وبـلاد الرافديـن، لحين ازدهار العلا في الألف الأول قبل الميلاد تركت بصماتها في أرضها وصخورها حتى يومنا هذا.
المسوح الأثرية الحديثة أشارت إلى أن أقدم تواجد بشري يعود إلى مئتي ألف عام!
أول ما تراه العين لحظة الهبوط.. جبالٌ تحتضنها رمالٌ ذهبية اللون على هيئة نتوءات صخرية لم أرَ لها مثيلاً. تأخذك في جولة تستحضر معها في مخيّلتك عنصر التشبيه، فكل معلم صخري ينطق ويعرّفك بنفسه: أنا المرأة وأنا كأس الماء وأنا الفيل الذي ينقلك إلى غابر الزمان.
تعلو الجبال فوق العلا وتلبس الشمس الساطعة تاجاً في ساعات النهار، وترتعش بنسمات الهواء الباردة والمنعشة في آن ليلاً. وفي سماء الظلمة ترتسم لوحة تشعر فيها وكأنك تحاكي النجوم القريبة في أرض شاسعة تبلغ مساحتها قرابة 29261 كم مربّع. لا تشعر بجمالية هكذا مكان إلا في الرحلات وارتباط بين السماء والأرض بقدر ما تستشعره في الرحلات الصحراوية إلا أن المفارقة هي كون 70% من أرض عروس الجبال “زراعية” بامتياز. معظم أهلها أصحاب مزارع ارتأوا أن يحوّلوا الصحراء إلى جنة على الأرض فترى رمالاً تكسوها أكثر من مليوني شجرة نخيل تولد منها تمور “البُرني”، وتتداخل معها أشجار الحمضيات التي صنعت ثمارُها زينةً تمتّع النظر وتُشبِع عابر السبيل.
يحاكي أهل المحافظة أشجارهم وأغصانها ويشبهونها بـ”المرأة التي لا تنكسر”. غصن البان الذي يتمايل من شجرة “بيريغرينا” وتغنّى بغُصنها الشعراء وشبهوا طولها وليونتها لمحبوباتهم. وإذ يقول الرومي: “غصنٌ ولكنّه فتاةٌ.. بديعة الشكل في الملامح”.
يُجمع العلماء والمؤرخون والأنثروبولجيون على ارتباط الأرض والجغرافيا في تكوين الطبائع البشرية والمجتمعات، ولا شك في أن أهل العلا خير مثال على صوابية هذه الدراسات فترى طباعهم هادئة كالأرض التي ولدوا وترعرعوا فيها.
ورثوا تاريخاً بشرياً منذ العصر الحجري حفر بصماته في صخور العلا حيث تلحظها بوضوح في جبل عكمة حيث الكتابات والنقوش الأثرية وأحرف تعود للحضارة اللحيانية في القرن السادس قبل الميلاد، ومع هذه المخطوطات الصخرية تحوّل هذا الجبل إلى أكبر مكتبة مفتوحة في العالم.
لم أكن أعلم أن أرضاً ـ ليست بعيدة ـ تجتمع فيها كل هذه المقوّمات الجيولوجية والتاريخية والطبيعية إلا حين سنحت لنا الفرصة لزيارتها في مهمة صحافية. ولو تسنى لي مجددا لزرتها مع العائلة والأصدقاء، لأنها وجهة لا بد لكل باحث عن السكينة والهدوء والتصالح مع الطبيعة أن يمرّ بها كما لمحبي الاستكشاف والتاريخ وعلم الآثار أن يتوقفوا فيها.
نقلاً عن موقع “العربية نت”