هل يحق للمنصّات الاجتماعية حظر منشورات دونالد ترامب؟* نايلة صليبي

النشرة الدولية –

النهار العربي

هل يحق للمنصّات الاجتماعية حظر منشورات دونالد ترامب؟

يمكن الإجابة بـ”نعم” قانونيّاً وبـ”لا” أخلاقيّاً.

أحقية المنصات الاجتماعية أن تتخذ “قرارات تحريرية” وإقرار ما الذي يجب نشره؛ هو موضوع جدل كبير وعميق بعد تحرك شركات التكنولوجيا العملاقة من فيسبوك، تويتر، غوغل، أمازون وأبل، لوقف حسابات دونالد ترامب الشخصية والحسابات التابعة لفريقه. هنا يجب التحديد أن دونالد ترامب ما زال بإمكانه استخدام حساب تويتر الخاص برئيس الولايات المتحدة@potus الذي لم يحجب.

جاء كل ذلك بعد اقتحام مؤيديه مبنى الكابيتول، مقر الكونغرس الأميركي، في واشنطن العاصمة يوم الأربعاء في 5 من يناير/ كانون الثاني 2021.

تمت عملية حظر الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب على المنصات الإلكترونية تحت عذر انتهاكات جسيمة لسياسة استخدام المنصات الاجتماعية.

 لماذا يحق للمنصّات الاجتماعية حظر المنشورات؟

في القانون الأميركي، وحتى اليوم، المنصات الاجتماعية هي شركات خاصة ولا تعتبر وسيلة إعلامية؛ أي إنها لا تخضع للتعديل الأول للدستور الأميركي أو ما يعرف بالـ First Amendement الذي يحمي حرية التعبير، أي الحرية المهددة من قبل الحكومة في الولايات المتحدة. هذه الشركات هي شركات خاصة ولديها الحرية في تطبيق شروط استخدامها كما تشاء.

يستخدم دونالد ترامب أكثر من منصة اجتماعية، وكانت كل من منصتي فيسبوك وتويتر المفضلة لديه في حملته الانتخابية. كان في استخدامه لمنصة تويتر أسلوب حكم غير مسبوق. وكانت تعتبر تغريدات دونالد ترامب بديلاً للبيان الرئاسي الرسمي الصادر عن البيت الأبيض. كان يعين ويقيل موظفي البيت الأبيض ومستشاريه عبر التغريدات، وكان يقرر سياسته الخارجية وهجماته على الرؤساء والحكام عبر التغريدات، ويعقد المصالحات عبر تويتر، وكان أعضاء الحزب الجمهوري ومعظم موظفي البيت الأبيض يترددون في معارضته وانتقاده خوفاً من سخطه وتغريداته السليطة.

حينها فُتِح له المجال للكذب ونقل الشائعات والتهديدات والتنمر ضد الصحافيات والصحافيين، والانتقاد بشكل أرعن، البرامج التي لا تعجبه أو تنتقده، كما فُتِح له المجال لنشر خطاب الكراهية والعنصرية دون حدّ، يوم سخط الأميركيون من أصول إفريقية وانتشار حركة Black Lives Matter.

هنالك تناقض كبير بين مبدأ حرية التعبير والتعديل الأول للدستور الذي يحمي حرية التعبير ونشر الأخبار المضللة. من هنا، لم يعد هناك سبب لترك المجال مفتوحاً لترامب لتهييج قاعدته الشعبية، التي نعرف أنها من اليمين المتطرف ومن الذين ينتمون لجماعات تفوّق العرق الأبيض. هؤلاء يستقون أخبارهم من فيسبوك والمنصات الاجتماعية المفتوحة للمتطرفين كمنصة Parler، يؤمنون بنظريات المؤامرة والدولة العميقة الـdeep state التي يروج لها دونالد ترامب في منشوراته والتي يتهمها بمنعه من الحكم. وهذه الدولة العميقة، حسب ترامب، مكانها الكابيتول. وكانت نتيجة هذه التراكمات بين منشوراته على مدى سنوات، وخطابه أمام جمهوره ومؤيديه في ساحة البيت الأبيض ودعوتهم للتوجه إلى الكابيتول واقتحامه وسقوط خمسة قتلى.

نتيجة هذا الاقتحام، ومع تغير اتجاه الريح لرئيس أقوى دولة في العالم، بدأت تجد تلك المنصات أنه تمادى بعيداً في نقل الأخبار المضللة المتعلقة بنتائج الانتخابات وتهييج قاعدته الشعبية وإقناعهم بأن أصواتهم قد سرقت وأن اليسار المتطرف هو من سيحكم ويدمر الديمقراطية في الولايات المتحدة.

لماذا لا يحق أخلاقياً للمنصات الاجتماعية في حجب المحتوى؟

لا يمكن أن يكون هناك رقابة فعلية على المحتوى العنيف وغير اللائق الذي ينشر على هذه المنصات. علماً أن مبدأ الرقابة يبقى مرفوضاً بشكل عام. أي مستخدم، حتى دونالد ترامب، في حال تم حجب حسابه ولو خالف قواعد شروط الخدمة، يمكنه القول “إن هذه المؤسسات بحجة عدم احترام شروط الاستخدام يمنعونني من التعبير”. التناقض هنا كبير والمسألة صعبة جداً بين فرض الرقابة وحرية التعبير وترك المجال مفتوحاً لخطاب الكراهية.

مسؤولية المنصات الاجتماعية في المجتمعات

تؤثر المنصات الاجتماعية بشكل كبير اجتماعياً وسياسياً، ليس فقط في الولايات المتحدة الأميركية وإنما في مختلف دول العالم.

شهدنا المذابح والتمييز العنصري من الروهينغا، ومذبحة كرايستشارش في نيوزيلندة، وعلمنا كيفية التلاعب بالرأي العام للانتخابات وغيرها، ففضيحة كامبريدج أناليتيكا ما زالت في أذهان الكثيرين.

المطلوب اليوم قانون لتأطير عمل هذه المنصات وتأطير المحتوى الذي ينشر. هذه المنصات هي المسؤولة بالدرجة الأولى إلى ما وصلنا إليه اليوم في كل أنحاء العالم. امتنعت المنصات الاجتماعية، خلال فترة حكم دونالد ترامب، عن حجب منشوراته العنصرية والمتطرفة والمتنمرة، بحجة أن هذه المنشورات هي بمثابة “خبر”.

هذا يعني أن المشكلة ليست دونالد ترامب وإنما المنصات الاجتماعية بحد ذاتها. هذه المنصات هي التي شجعت منذ سنوات طويلة خطاب الكراهية والخطابات المثيرة للجدل؛ لأن هذه المنصات من خلال خوارزمياتها الغامضة تشجع هذا النوع من الخطابات لإثارة التفاعل لجذب المستخدم وإبقائه داخل بيئة المنصة للربح المادي في ما يسمى “اقتصاد الانتباه” Attention Economy. تعتمد هذه المنصات كسب المال من خلال نشر المشاعر السلبية التي تثير التفاعل والالتزام “engagement”، التي تزيد الالتزام والتفاعل أكثر من المشاعر والمنشورات الإيجابية.

المشكلة في النموذج الاقتصادي لهذه المنصات، فهو المسؤول الأول اليوم.

بعد ذلك تأتي تلك المنصات مدّعية العفة وتحجب حسابات دونالد ترامب بحجة مخالفته لشروط الاستخدام ونشر الأخبار المضللة وخطابه الموبوء والمضلل.

لقد نجحت هذه المنصات حتى اليوم من التهرب من مسؤولياتها باعتبارها شركات خاصة لا تقع المسؤولية على عاتقها بل على عاتق من ينشر المحتوى على تلك المنصات.

وذلك بفضل المادة 230 قانون آداب الاتصالات التي تمنح حصانة لشركات الإنترنت عن المحتوى الذي تستضيفه والذي يتم إنشاؤه من قبل مستخدميها، هذه المادة من قانون آداب الاتصالات تنص على “ألا تُعامَل المنصات الاجتماعية كمؤسسات إعلامية”. بدون هذه المادة لا يمكن للمنصات الاجتماعية أن تعمل كما تعمل اليوم.

 

الادعاء بحماية الديمقراطية جاء متأخراً

نعرف اليوم أن شركات التكنولوجيا العملاقة ومجموعات سيليكون فالي، التي تتمتع بقدر كبير من النفوذ والقدرة المادية التي تفوق ميزانيات دول، عمالقة الصناعة الرقمية، هم اليوم أكثر قوة من الدول والحكومات. وبات من الصعب اليوم الحد من قدراتها ومن قوتها. هذه الشركات هي اليوم تحت مجهر القضاء الأميركي. تواجه مثلاً شركة فيسبوك حاليًا سلسلة من الشكاوى المقدمة من لجنة التجارة الفيدرالية الأميركية ومن 46 ولاية أميركية ضد الاحتكار، بحجة أن شركة فيسبوك تستخدم استراتيجية “الشراء أو الدفن” لاقتناص المنافسين والتضييق على المنافسين الصغار. نعرف مواقف الجمهوريين والديمقراطيين من المنصات الاجتماعية ومن غوغل وفيسبوك بالتحديد، ونذكّر بدعوة المرشحة الديمقراطية السابقة للانتخابات الرئاسية أليزابيت وارن، لتفكيك فيسبوك وغيرها من الشركات العملاقة من أبل وأمازون؛ هذا الادعاء بحماية الديمقراطية جاء متأخراً.

كثير من النشطاء والحقوقيين والأساتذة الجامعيين وأيضاً من السياسيين وقدامى المستثمرين في منصة فيسبوك، دعوا فيسبوك والمنصات الأخرى لحماية الديمقراطية طوال عهد دونالد ترامب؛ ولم يسمع لهم لا مارك زوكيربيرغ، المؤسس والمدير التنفيذي لفيسبوك، ولا جاك دورسي، الشريك المؤسس والمدير التنفيذي لتويتر… هل وصول جو بايدن والديمقراطيين لسدة الرئاسة الأميركية أثر في عفّة هذه المنصات التي قررت الرقابة؟

يجب على هذه المنصات، ليس فقط تغيير سياساتها، ولكن نموذجها الاقتصادي جذرياً، الذي يعتمد على اقتصاد الانتباه وجمع البيانات الخاصة والإعلانات. والذي يجب فهمه أن هذه شركات خاصة ربحية وليست جمعيات خيرية.

هنالك عمل جبار يجب القيام به لتوضيح ما معنى حرية التعبير والفرق بين حرية التعبير وحرية نشر الأخبار المضللة وخطاب الكراهية والتنمر والبلطجة على هذه المنصات التي يتحكم فيها الرأسمال على حساب حياة البشر وكرامتهم.

يجب الانتهاء من التعامل مع هذه المنصات؛ شبكة الإنترنت ما زالت حرة، لذا علينا حماية حيادية الانترنت وفضائه المفتوح والمساعدة على بناء منصات تواصل تشاركية بعيدة من الاحتكار لفتح المجال لحرية تعبير حقيقية دون رقابة خاصة ومصالح السياسة والمال.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى