مرحلة “ما بعد أميركا” أم عودة أميركا؟* رفيق خوري

النشرة الدولية –

التحولات جاءت سريعة في أميركا. على مدى عقود من القرن العشرين بدت مستقرة في قيادة النظام الليبرالي العالمي الذي بنته بعد الحرب العالمية الثانية.

وخلال عقدين من القرن الحادي والعشرين، تسارعت التحولات في إدارة سياستها الخارجية. غزو أفغانستان والعراق وقيادة التغيير في الشرق الأوسط، و”بناء الأمم” أيام الرئيس جورج بوش الابن، و”القيادة من الخلف” أيام الرئيس باراك أوباما، و”اللا قيادة” أيام الرئيس دونالد ترمب، والعودة إلى القيادة مع الرئيس الجديد جو بايدن.

لكن ريتشارد هاس، المسؤول عن التخطيط السياسي في الخارجية الأميركية سابقاً، والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية النافذ، يتحدث عن مرحلة “ما بعد أميركا”. وقبل سنوات وصفها بأنها صارت “قوة عظمى مارقة”. وبدا في كتاب “فرصة” كأنه يقرأ المستقبل بقوله “التهديد الأساسي للأمن القومي الأميركي لا يأتي من قوة عظمى معادية، بل من الجانب المظلم للعولمة والإرهاب والتغير المناخي”. فهل ننتقل خلال ثلث قرن من عالم “ما بعد الاتحاد السوفياتي” إلى عالم “ما بعد أميركا”؟

خلال نشوة “الانتصار” الأميركي والأوروبي في نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفياتي، قال جورجي أورباتوف، الخبير السوفياتي بالشؤون الأميركية، لصديق أميركي “انتبهوا، أنتم في مشكلة: خسرتم عدواً”. وليس بين خصوم أميركا وأصدقائها من يملك رؤية للعالم من دون أميركا. لا الصين الصاعدة، ولا روسيا العائدة. ولا أوروبا الراكدة. و”لا أحد استطاع أن يأخذ دور أميركا العالمي، والأسوأ: لا أحد حاول ذلك”، كما قال أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الجديد.

صحيح أن “إجماع واشنطن” في الاقتصاد ضمن مبادئ السوق الليبرالية والديمقراطية السياسية تقدم عليه “إجماع بكين” ضمن صعود النموذج السلطوي في النمو الاقتصادي، لكن الصحيح أيضاً أن أميركا بلد الـ40 في المئة من حاملي جوائز نوبل في السلام والأدب والاقتصاد والطب والكيمياء والفيزياء، و”الثقة التي خسرتها” في السنوات الأخيرة يمكن أن تستعيدها عبر التأكيد أنها “قادرة على حل المشاكل من جديد” بحسب سامنتا باور في “فورين أفيرز”، وهي المندوبة الأميركية سابقاً في الأمم المتحدة، والتي أعطاها بايدن موقعاً في إدارته.

ذلك أن الرئيس الأميركي أعلن أن حركته الأولى في السياسة الخارجية هي القول لقادة العالم: “أميركا عادت، وتستطيعون الاعتماد عليها”، وليس أمراً قليل الدلالات أن تشمل الأوامر التنفيذية الأولى التي وقعها العودة إلى اتفاق باريس للمناخ، وإلغاء حظر السفر إلى أميركا من بلدان إسلامية ولم شمل الأسر من طالبي الهجرة، بعد أن فصل ترمب أطفالهم عنهم.

ولا مجال للهرب من واقع “الانحدار” الأميركي المتدرج بعد ما يزيد على عقد من الانفراد بقيادة العالم. انحدار سياسي في الداخل. تراجع حجم الاقتصاد الأميركي في الاقتصاد العالمي من النصف إلى الثلث. تفاقم العنصرية لدى البيض من الطبقة العاملة في الأرياف المهمشة التي ضربتها العولمة، وكان ذلك “رأسمال” ترمب. تآكل البنية التحتية. تخلف ترمب عن إعطاء المثل القيادي للعالم في مكافحة كورونا. والتراجع إلى الرقم 91 في فتح القواعد التعليمية بحرية للجميع مع أن أميركا هي الرقم 1 في نوعية الجامعات.

لكن “نهاية السيطرة الأميركية لا تعني نهاية القيادة الأميركية”، كما يقول جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الجديد. فالحقبة الأطول من الاستقرار في العالم هي التي تولت فيها أميركا القيادة، بعد قرون من الإمبراطوريات وتنافسها وحروبها واندفاعها لاحتلال آسيا وأفريقيا وأستراليا وأميركا نفسها. والجدل الدائر في واشنطن هو بين دعاة “الخندقة”، ودعاة “الاستراتيجية العظمى”، ودعاة “استراتيجية أوف شور”، والمتسائلون إن كان على أميركا أن تكون “قوية إلى هذا الحد” وتنفق على الدفاع أكثر مما تنفقه عشر دول مهتمة مجتمعة، صاروا كثراً.

غير أن المعادلة الواقعية التي يضطر الجميع إلى التسليم بها هي: أميركا ليست قادرة على حل كل المشاكل في العالم، ولا تملك ترف تجاهلها. وإذا كانت أميركا عاجزة عن الانعزال، فإنها خطيرة في الانخراط. وبحسب كنيث بولاك في عرضه لكتاب ديفيد رندل “رؤية أم ميراج”، فإن “التحالف مع أميركا يمكن أن يكون تجربة صعبة تؤدي إلى الغضب والجنون، لأنها متغيرة منافقة، وحتى مروعة لحلفائها”.

ولا مهرب من أميركا التي لديها تحالفات مهمة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، على عكس خصومها الذين لديهم قليل جداً من الحلفاء. والعالم، لا بايدن وأميركا فحسب، أمام امتحان قريب ومفصلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى