الخارجة عن القانون

النشرة الدولية –

الحرة – آلى حميدي

بحذرٍ شديد تقترب منّي امرأة تبدو في منتصف الأربعين، لكن الحياة أنهكت ملامح وجهها إلى أن ترهلت تباعا بزمنٍ أقصر من التعداد البديهي. تجرّ قامة نحيلة تكاد أن تنلاشى، وكأنها جسدان متداخلان يلتهمان بعضهما.يصارع أحدهما الثبات والآخر التحرك. عيون بارزة تكاد أن تقع، لتحل محلهما فجوتان عميقتان معلقتان بمنتصف وجه،على حافة عظمتي الوجنتين.

“هل تسمحين لي الجلوس قربك؟”، أرى سبابتها تشير إلى أفخاذي. “لما لا؟!” أقولها وأضحك خوفاً من جلوسها حرفيل نحو ما أشارت. “لا لأمانع” أضيف، وأنا في مزاج لا يسمح بتبادل أي حديث عابر.. “أكيد” أقولها بسخرية ملوحةً بكف يدي اليمنى تجاه المساحة البعيدة عنّي سنتيمترات قليلة، مع مزيج من اللعنات الظاهرة بشكل فجّ على شفاهي وعيوني (يقول لي “صديق” إن التعامل معي في بعض الأحيان صعب جداً يصل إلى حدّ الانهاك. وعندما يلاحظ الاستياء بادٍ على شفتي السفلى باعتبارها الأكبر وفق رأيه، يحمل حقيبته، ويتركني لوحدي إلى أن أعود إلى الهيئة البشريّة مجدّداً).

تلاحظ السيدة المتطفلة ذلك، أقصد ترى استيائي، من اقتحامها الجزء الصغير من الرصيف، الذي قرّرت أن أقضي عليه بعض الوقت بسلام، مع نفسي، أراقب المارة والزحام المحيط لا أكثر. برفقة الـ”desperados” بيرة “الخارج/ة عن القانون” أو “الفوضى”.

البيرة (الجعة) مخلوطة بتاكيلا باتقان (ذلك لكرهي الشديد لطعم البيرة العادية، متحجّجة دوماً بأنها “تسبب ترهل البطن وظهور كرش ضخم، وأنا أحب خصري النحيل.. هكذا أنجح دوماً في التهرب من مجاراة محبيّ البيرة، المسكوبة في كأس “عريض” و”ضخم” مليء بالرغوة، في حال دعاني أحدهم للشرب).

تختار تجاهل استيائي جرّاء تطفلّها، ببساطة تريد التحدث. هكذا تفرض برلين بشكل غير مباشر على قاطنيها، اللطافة الزائدة، وتناول القرنبيط طوال الوقت. إن لم تفعل ذلك، أنت شخص لايواكب العصر. أعني، أعتذر لست cool. “مدرسة قديمة!” هذا كان أحد أسباب تحولي من نباتية لـ15 سنة إلى مُلتهمة شرسة لجميع أنواع اللحوم، وأشياء أخرى. إضافة إلى تشخيص الطبيب بأن جسدي سوف يتداعى إن استمريت في تناول الخس والأشجار و”أحواض الزّريعة المنزلية”، مفسداً علي المُشتهى الشخصي، في ربط احتمالات التداعي بالتفكير المفرط تجاه الوجود والكون. والقضايا الكبرى التي لم أعد أؤمن بها. لكن للأسف مجرد نقص في الـ b12.

ألوم المدينة – من باب التسلية- على كل آثامي التي أحب، إنها “مدينة المجون”، لا خاصية مفعلة أو app لمقاومة الغواية. تحرّض الساكن فيك إلى أقصاه، ومن ثم تبتلعك بكل ما فيها من كوارث وانهيارات نفسية وابتهاجات، إلى أن تتحول أغلب ذكرياتك السابقة إلى نقمة أو وجود ماضٍ قابلة للتشكيك. ما يجعل الانتقال من المدينة صعباً أومستحيلاً. شخصياً أدمنت شعور انعدام الاستقرار في أي تفصيل يومي، هبوطاً ونزولاً. الاعتدال كارثة وعدمه أيضاً، لكن في العدم تكمُن الإثارة.

“من أين أنتِ؟” تسألني برائحة فم غريبة، وتكمل حديثها دون انتظار إجابة منّي “لفظك للألمانية يدل على أنّك”ausländer” أجنبيّة، أعني لستِ ألمانيّة”. مع تحديق مستمر يطال جسدي  من الأعلى إلى الأسفل.

“نعم أجنبية!” مع ابتسامة صفراء، سببها يقيني التام بأن جوابي سيكون له اتجاهان. اتجاه منهك مليء بالأسئلة التافهة والتعاطف الرديء والتعامل مع “الآخر” بـ”غرائبية”، وكأنه من كوكب آخر، والذي بالمناسبة أمقته أكثر من العنصريّة. واتجاه آخر، أستطيع أن أقول بأنه المفضّل لدي والأقرب إلى قلبي: أن تحمل جسدها وتهرع بعيداً. “لأن الآخرين هم الجحيم” كيف؟ جملة مكرورة لكن يجوز استخدامها في محاولات التهكم على الكليشيهات الثقافية في وضعها بعناية داخل أي سياق حتى لم تكن ذات صلة. لا للأسف، إنّها من جماعة الحب والسلام، والتعاطف. “وَصِلتِ” أقول في نفسي. وأنا أحتسي الجعة. تعاود السؤال باصرار مستفز: “من أي بلد إنتِ؟”..

ولدت في سوريا! هل تعرفين بلدا اسمه سوريا!؟ أتسائل… نعم أعرفها، أقصد لم أزرها، لكن لدي الكثير من الأصدقاء السوريين! (تجيب). أحب مرافقتي لهم، مأساتهم تجعلني أشعر بتحسّن وكأنني اعتاش على مآسيهم. لا أفكر أبداً متى ستنتهي، أعني لا أحمل أمنيات، أريد فقط التواجد بينهم. لكن مهلاً؛ لا تبدين من سوريا!

“وأنت لا تبدين ألمانية” أجيب. وتصاب هي بالذهول! نعم، هذا الأسلوب الذي ابتكرته لتكرّارهذا الملاحظة البلهاء، التي تلاحقني من وقت كمت أقطن في دبي وصلاً إلى برلين. والمفضّل لدي عند نطق أحدهم هذا الإحساس حول بشري آخر، بأنه لا يشبه سكان منطقة جغرافية معينة، ولد فيها مصادفةً. “آه.. وأنت لا تبدو..”، وأضع جنسية صاحب الإحساس الساذج، ضحل المخيلة.

في زاوية قطار الأنفاق رقم 8، تجلس امرأة في الخمسين أو الستين.. رأسها غارق داخل طبقات من الصوف المهترئ. يتفادى الجميع الجلوس بالقرب منها، من يجلس دون انتباه؛ يعتريه الخجل والإحراج من نظرات الآخرين في حال قرر الهروب من رائحة البول والكحول والبقع المعتقة على ثيابها. لا أعلم كيف انفجرت من البكاء في اللحظة التي شممت فيها هذه الروائح المختلطة، لم أكترث أنني أبكي في فضاء عام أو أمام مجموعة من الغرباء، لم أكترث لك شعرت بالاحتقار والإزدراء تجاه نفسي، في اللحظة التي خرجت فيها من القطار. أعني كيف سمحت لنفسي بالشعور بالشفقة أو “التعاطف”؟ من أذن لي تعزيز شعوري بأنني إنسانة جيدة والإكتراث لمآسي الآخرين. ماذا فعلت غير البكاء لثوان. أنا فقط مارست شعورا غير متبادل، غير منصف، يرجع بالفائدة في كسر روتين مشاعري، دون فعل حقيقي. مجرد هراء فارغ، كالمشاركة في هاشتاغ قضية حساسة على فيسبوك.

أميل إلى نيتشه وشوبنهاور وعدد لا بأس به من المنظرين، في احتقار شعور الشفقة ووصفها بأنها ممارسة العدمية، تضاعف البؤس، تؤذي الحياة وتحولها إلى قيمة جديرة بالنفي. أداة تساهم في مضاعفة بؤس المشفوق عليه، في حين يمنح “المتعاطف” نفسه أو من حوله وسام المشاعر الفياضة على حساب آلام الآخر وبؤسه، بشكل مبطن.

 

أخرج من محطة قطار الأنفاق بخطوات منتظمة وفقاً لتعليمات “سيري” الصوتية. أصل إلى المبنى حيث تسكن المرأة التي اقترحت علي استئجار غرفة في “منزلها الرائع” كما وصفت. ندخل إلى المنزل حيث نتجول بين غرفه، تقف بشكل مفاجئ أمام لوحة، وصفت صاحبة الدار ظاهرها وتشكيلها بالرداءة، قبل أن تبرر إقدامها على “شراء” اللوحة بدافع الشفقة والعطف تجاه الفنان، فهو سوري ولاجئ عانى ولايزال من الحرب الطاحنة هناك. تقول كلمة “هناك” كأنها تصف المسافة إلى كوكب بلوتو أو زحل، هناك… هناك.

(أعني تلك الحرب الدائرة بين سكان محليين ومرتزقة على رأس عدة أنظمة ديكتاتورية و”ديمقراطية”، بأسلحة من مختلف الجنسيات، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ إنها الصوابية السياسية بأعلى تجلياتها..)

تكمل حديثها عن نفسها، وشعورها بالفخر للتعاطف “معنا”؛ هي ملتزمة شرسة، حتّى أنها دفعت مئات الدولارات مقابل لوحة “رديئة”، وذلك بسبب إصرارها على مساعدة فنان لاجئ، مادياً. ومساعدته نفسياً من خلال تعليق لوحته منتصف غرفة الاستقبال، قبل أن تقول إن روحها الغجرية لن تخمد إلا بمساعدتي أنا أيضاً.

اقترب من اللوحة لأقرأ التوقيع، أعرف الفنان فقط عبر فيسبوك.  اقترب أكثر من اللوحة، أشمها، لا رائحة للبول أو الكحول. أعود وأشم نفسي أيضاً، لا أشم أية كحول ولا بول، فقط رائحة الـ narciso rodriguez، كلفتني الزجاجة الواحدة ثروة! شككت في نفسي أيتها الحمقاء الغجرية. أقول في نفسي وأخرج دون أن أودعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى