رواية (الحبّ ثالثًا وأخيرًا) .. صوت مشحون بالرحيل

النشرة الدولية –

تطرح الكاتبة نوال القصار في روايتها «الحبّ ثالثًا وأخيرًا» الصادرة عن دار الفارس للنشر والتوزيع/ عمان، الأسئلة الفنية التي تصدم القارئ وتهز وعيه الجمالي وذوقه، كما تثير من خلال صفحات روايتها قضايا جمالية عبر محاورات الشخصيات؛ إذ بنت شخصياتها بالطريقة المباشرة بتقديم الشخصية بواسطة التسمية وصفاتها النفسية أو الجسدية، كما يمكن للأسم ايضاً ان يوحي بجزء من صفات الشخصية، كشخصية (غادة) التي تلعب دور الساردة عن ما يدور في مكنوناتها: (ماذا؟ عزيزة على قلبه؟ كنت قد اعتدت ان اسمع منه كلمة حبيبتي ؛احبك ؛ حياتي روحي ؛ من اين قفزت هذه العبارة على لسانه؟ ص١٨).

اهتمت الروائية القصار بالترتيب الزمني للحدث؛ فالقضية هي سرد للحوادث المتسلسلة زمنياً. فالروائية تحكي أحداثاً انقضت؛ كقصة حبها الاول؛ وتتحدث عن الحاضر الروائي والمستقبل؛ ولا تترك نفسها اسيرة لتطورات احداثها التي تفرضها طبيعة السرد الذي هو عرضة للتطوير او التغيير؛ فراوية القصراوي كتبت الحب وطرحت أسئلة الحياة: (تجلت وسائل استغلال المرأة بأبشع صورها وانا اقرا بعض الاسباب التي تم الأقتراض لأجلها: فتيات في عمر الورد اقترضن التقود تحت ضغط الوالد او احد الاخوة؛ ليحتفظ بالنقود لنفسه لسبب وا لآخر؛ وعندما عجزن عن السداد تم إيدعهن السجن ص٨٢).

ما طرحته القصار عن هذا الوجع هو تصوير روائي عن حاجات الإنسان بغض النظر عن فقره أو غناه؛ فهناك شيء يوحّدهما: المال؛ جوهر الكائن الإنساني المغترب؛ وهذا الأغتراب باقٍ؛ أي إنّه عملي ويوميّ.

وهكذا تخلط الكاتبة الواقعيّ بالأخلاقي؛ والعكس بالعكس. وعلاوة على ذلك فإنّ لهذا الوهم أساساً واقعياً متين؛ ذلك انه ليس وهماً نظريًا؛ بل وهمٌ عمليّ؛ اساسه في الحياة اليومية وفي الطريقة التي تُنظَّم بها الحياة اليومية. وهذا الواقعي واللاأخلاقي كما صورته القصراوي في نظرتها لاوجاع المراة التي تتعرض للاستغلال؛ ليس مقولتين تأمليتين، بل هما مقولتا الحياة؛ مقولتان تاريخيتان؛ بل تراجيديتان ايضا. فحين تختزل الكاتبة في روايتها «الحبّ ثالثا واخيرا» ان الإنسان هو واقع التاريخ الأساسي؛ يُختزل اللاإنساني في مظهر، في تجل من تجليات صيرورة الأنسان: (والامر الغريب في هذا الصباح أنني لم اراجع في ذهني تلك المكالمة مع آدام ؛ لقد نسيت الأمر تماماً ببنما قرأت مرة أخرى ثلاث وسائل بعثها أنيس مساء أمس وأخرى هذا الصباح؛ ص١١٧).

ومن الأسئلة التي طرحتها الروائية في روايتها: ما معنى الحدث الذي عاد؟ وعلى وجه التحديد تكرار قصة الحب؛ بغض النظر عن الأسماء وإختلاف سلوكها؛ فالقضية هنا الإعادة؛ نشهد اليوم عودته الباهرة المحتفّل بها. إن الأمر ليس بهرجة مفتعلة، ولا علاقة لهذه العودة بالمفهوم القديم للحدث كما تعارفت عليه المدرسة الوضعانية خلال القرن التاسع عشر؛ وإنما هناك مفاهيم جديدة عَوَّضت، من قبيل البنية والزمن الطويل واللامتغير والثابت: (افقت من نومي ونور الشمس يغمر الغرفة في حوالي السابعة والنصف؛ ص١٣٧).

لماذا تتحدث عن ولادة جديدة للحدث؟ هل الامر مجرد عودة لما كان في ماضي الرواية؟ او عودة لفكرة مقارنة العلاقة بين الحبيب الاول والثاني، ما الحدث الذي عاد؟ انها اسئلة رئيسية تفرض نفسها على الرواية؛ بل أن الحدث بحسب قراءة دوس، ليس معرفة لماذا عاد الحدث بالعودة والظهور فجأة؛ ولكنه التساؤل عن ماهية من عَادَ تحت مسمّى «حدث»، بصيغة اخرى أصبحت طبيعة الحدث هي موضوع التساؤل؛ لان تعدد الإجابات عن سؤال الماهية هو الذي يشرح مرونة استعمالات كلمة «الحدث»: (ودعتني إلى الباب فيما كنت اقفز الدرجات هبوطاً وعيناي تبحثان عن سيارته. اربع أو خمس درجات وسأكون بين ذراعيه… كثيرة هذه الدرجات ! ص ١٢٨).

يتجلى الحوار داخل رواية «الحبّ ثالثّا واخيرًا» بين الذّات الروائية وبين النافذة مكوناً من صورة النافذة (أوّ) يمكن لها ان تعوض الواقع المنقوص بالكثير من التفاصيل (الوالد/ الوالدة/ الاخوة/ الاقارب) بطريقة واضحة تظهر مدى التهميش والهجرة والمنفى وما يدور في الواقع المعيش، ومقدار ما يستلب من هذه الذات ليتناسب مع النداء (الانا) ذي الايقاع المرتفع المنشد للرغبات: (انت مدينة لي بفنجان قهوة ! حقاً؟ لا أذكر أنني اعطيت وعداً.. ص٣٨).

يرتفع صوت الذّات الُمهمش في هذه الرواية بدءاً من التحذير وما له من دلالات حين ترتفع فيها الأصوات تحذيرا: (اعلم انك ستلتقينه مرات ومرات؛ أخاف عليك غادة ولهذا احذرك.. ص٥٠).

ورغم النهاية السعيدة التي ختمت بها الروائية نوال القصار والمتمثلة بزواج الحبيبين، إلا ان هناك واقعاً مُهمشاً لتلك الذّات ببوحها في لحظات الكشف عن حقيقة مشاعرها وما آلت بها الظروف من تلاشي ونفي؛ إذ ان خفوت الصوت للحقيقة في النهاية «السعيدة» احد مفاصل صوت الذّات الُمهمش لما تبدو عليه من حالة نفسية تظهر بشكل آيل للزوال أمام ذاكرة التّلقي، كما ان خفوت الصوت داخل نص النهاية السعيدة تتغيب لصورة الذّات كأنه ذوبان للشيء، وفي الوقت ذاته ابراز صورة للواقع المعيش لهذه الذّات وما عليه بعيداً عن الحقيقة، فاحتراق الروح وتلاشيها هو التهميش والإقصاء الحتمي عن الحقيقة.

نوال القصار قدمت روايتها «الحبّ ثالثّا وأخيرًا» بصوت مشحون بالرحيل من دون تعقيد او غموض يلفه، إذ انه تغييب تعيشه هذه الذّات، وتقدمه لذاكرة التّلقي بدرجة عالية الحساسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button