قوة بكركي من ضعف عون و”سبابة” نصرالله* فارس خشّان

النشرة الدولية –

في لبنان، عندما يضعف موقع رئيس الجمهورية يقوى موقع البطريرك الماروني. ولا يضعف موقع الرئيس إلّا عندما يتوقف، عمداً أو عفواً، عن الدفاع عن الركائز الوطنية المؤمّنة للصالح العام، ولا يقوى موقع البطريرك إلّا عندما يسارع، بوضوح وبجرأة، الى احتضان هذه الركائز من أجل حمايتها وصونها وتعزيزها.

في لبنان الحالي، دخلت هذه الثابتة، موضع التنفيذ، مرة جديدة، بمجرّد أنْ ثبت أنّ ميشال عون سقط في الحزبية الضيّقة، وقدّم المصالح العائلية على الصالح العام، واستغلّ طائفته لحصد المنافع على حساب موقعها في النظام، وأسقط الدولة من مرتبة “راعية التوازنات” الى درك “الخادمة” عند “حزب الله”، ووقّع على إلغاء “تحييد” بلاد الأرز، سامحاً باستغلالها في صراع المحاور، لما فيه مصلحة “الحرس الثوري الإيراني”.

حاول كثيرون أن يحموا لبنان من سلوك ميشال عون، ولكنّهم فشلوا في ذلك، فالسياسيون والناشطون وقادة الرأي والكتّاب و”الثوّار”، بدوا أعجز من أن يصحّحوا مساراً محمياً ليس بتعاضد الطبقة الحاكمة، فحسب بل بقدرات “حزب الله” الترهيبية، أيضاً.

ووصل لبنان، خصوصاً بعد الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي، وفي ظل فشل المبادرات “الحبيّة” التي كانت أبرزها “المبادرة الفرنسية”، إلى مفصل تاريخي: انحلال الدولة أو “انتفاضة” بكركي.

وانتفضت بكركي، حيث راح البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي يملأ الفراغات التي أحدثتها بعبدا، متبنّياً التشخيص الذي شاركه فيه رؤساء جمهورية سابقون وسياسيون مهمّشون ومنظّرون مجرّبون ومعارضون منزّهون وكتّاب مرموقون وخبراء دوليون.

وفي هذا التشخيص يتبيّن بوضوح أنّ فقدان الدولة سيادتها، بمعناها الدستوري العميق، هو ولّاد الآفات اللبنانية، بدءاً بتوريط “حزب الله” للبنان في صراعات ضد مصلحته الإستراتيجية، وصولاً الى تأثيره في تكوين السلطات لتكرّس “الانحراف الإستراتيجي”، ممّا أدخل البلاد في دوّامة مدمّرة للدولة.

وكان لافتاً للانتباه أنّ الملفات التي رفع الراعي لواءها لم تخرج عن سياق هذا التشخيص، مثل “تحييد لبنان” و”تدويل الإنقاذ”.

ومنذ بدء “انتفاضة بكركي” بدا “حزب الله” مستاء، ولكنّه، في ظل اطمئنان الى قدرة “حزب عون” على احتواء الصرخة البطريركية، اكتفى بأدواته المعتادة، فكلّف مرجعيات روحية وشخصيات دينية يهيمن على توجهاتها، بالمواجهة، ولكن، عندما اكتشف أنّ بكركي انتقلت من مستوى “التحييد” الى مستوى “التدويل” دخل، بقوة على الخط، متوسّلاً أقوى وسائله الدعائية: أمينه العام حسن نصرالله.

في الواقع، لم تكن طروحات الراعي بحاجة إلّا لدخول نصرالله بـ”سبابته” على خطّها، ذلك أنّ الأمين العام ل”حزب الله” قدّم للمشككين الدليل الساطع على أنّ خليفة البطريرك الراحل نصرالله صفير إنّما انخرط، فعلاً، في طريق المواجهة الشجاعة التي كان سلفه قد انخرط فيها.

وبذلك، دَفَع الدليل الذي قدّمه نصرالله طروحات الراعي الى قائمة الأولويات، وجعلها عنوان المواجهة السيادية التي افتقدها لبنان، مع انهيار “قوى 14 آذار”، بداية ومن ثم مع تسليم رئاسة الجمهورية الى ميشال عون.

إنّ لبنان، كلّما واجه إشكالية سيادية، احتاج الى مظلّة بكركي، لأنّ تخلّي رئاسة الجمهورية عن واجباتها الجوهرية، من جهة أولى، ودخول قوى ترهيبية على خط تهديم الدولة (النظام السوري في عهد الرئيس السابق أميل لحود و”حزب الله” في عهد عون)، من جهة ثانية، يُسبّبان إضعاف موقع المعارضين لدى الرأي العام، ممّا يُهمّش طروحاتهم، ويؤديان الى تشتيتهم، ممّا يسهّل الانقضاض عليهم.

إنّ توجّهات بكركي، خصوصاً متى كانت منسّقة مع توجّهات الكرسي الرسولي، تأخذ مداها العالمي، وتصبح موضع اهتمام دولي، بحيث تنتقل، رويداً رويداً، من محور متابعة الى مجال تنفيذي.

ويعرف “محور الممانعة” التأثير الكبير لدور بكركي، في بلورة قرار تحرير لبنان من الاحتلال السوري الذي كان، وخلافاً لسلاح “حزب الله”، يحظى بموافقة ضمنية أو علنية، من المجتمع الدولي.

ولكن، بما أنّ “حزب الله” لن يسكت عن توجّهات بكركي الجديدة، فماذا تراه يمكن أن يفعل؟

إنّ الأدوات التقليدية التي يعتمدها “حزب الله” لا تُجدي نفعاً، بدءاً بالشتم، مروراً بالترهيب، وصولاً الى التلويح بانقسام طائفي.

لا تُجدي هذه الأدوات نفعاً، لأنّها هي “حجر الزاوية” في بناء “انتفاضة” بكركي على مسار تهديم الدولة.

ولهذا، فإنّ ما يمكن ترقبه في الآتي من الأيّام هو محاولة امتصاص النقمة، من خلال الدفع الى “إرضاء” بكركي بما يمكن لاحقاً، تعويضه.

إنّ الراعي، مثله مثل غالبية اللبنانيين والمجتمع الدولي، يعتبر أنّ تشكيل حكومة جديدة، بمواصفات “معقولة”، من شأنه أن يخفّف أهوال الجحيم التي يعاني منها اللبنانيون.

وهذا قد يؤدي الى دخول “حزب الله” بقوة على خط تشكيل الحكومة، بالضغط على أتباعه المعروفين وحلفائه “العلنيين والسريين”.

وتشكيل الحكومة من شأنه أن يُحوّر الاهتمام عن طروحات الراعي، ولو مرحلياً، من خلال نقل التركيز، من الأسباب المولّدة للفراغ، إلى الاهتمام بما يمكن أن تولّده الحكومة من آمال.

ولكنّ المشكلة في هذا “الإغراء” إدراك “حزب الله” أنّ “شراء الوقت” لم يعد مجدياً، فأيّ حكومة لا تُعطي مصداقية كافية لتنفيذ سياسة “التحييد”، هي حكومة آيلة الى فشل حتمي، ممّا يسمح، في اللحظة المناسبة، بتجسيد مطلب “تدويل الإنقاذ”، على قاعدة أنّ الانهيار، ولو كان مستهلكوه لبنانيين مرتهنين وأنانيين وفاسدين، إلّا أنّه، بالمحصلة ليس صناعة لبنانية.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى