فلسطين* ريم قمري

النشرة الدولية –

لماذا نحب فلسطين؟ هذا السؤال تحديدا مهما بحثنا له عن إجابات و مهما رتبنا أفكارنا بطريقة تبدو منطقية لن نجد له إجابة واحدة كافية، إنه أمر يخضع ببساطة لسلطة العاطفة المطلقة و لا شئ غير ذلك.

لأن الحب لا يفسر و لا يشرح و لا يمكن إخضاعه بأي شكل من الأشكال لأحكام المنطق و العقل.

لكننا في نفس الوقت نجد له مبررات في الواقع، و ربما لست بحاجة للتذكير بها أو تعدادها ، فقط سأقول أن القضية الفلسطينية كان لها دور كبير في تشكيل وعينا و تحديد مساراتنا الثقافية و الفكرية.

أفكر أحيانا انه لولا فلسطين لما قرأت في مراهقتي درويش بذلك النهم و العشق ، و لولا فلسطين ما كنت سأدمن على قراءة الكتب ، لقد ربت فينا وعيا ثوريا و حسا وطنيا كبيرا.

لكننا مع ذلك خذلناها و خذلنا قبلها أنفسنا ، و انتهينا كما انتهت اتفاقية ” أسلو” مجرد جثث أوطان تبحث عن الخلاص.

سنة 2012  كان لي الحظ و زرت فلسطين او ما تبقى منها ، أراضي الضفة الغربية ، وقتها كنت أتحدث مع صديقيٌ لبناني و زوجته فلسطينية من لاجئي الأردن، أخبرتهما انه جائتني دعوة للذهاب الى فلسطين، أذكر أنهما قال لي اذهبي و لا تترددي لحظة و قبلي التراب نيابة عنا، أثر فيا كلاهما كثيرا.

بعدها بسنة التقيت ” بسلامة كيلة” في القاهرة و أخبرته أني زرت فلسطين، دمعت عيناه و ربت على كتفي و قال ”  أتمنى أن أراها قبل أن أموت” و مات و لم يحقق أمنيته.

زيارة فلسطين كانت حلم بالنسبة لي و بالنسبة لكل جيلي و حتى للأجيال السابقة.

كنت خلال الرحلة مسكونة بهاجس تتبع خطوات كل من مروا عبر دروب هذه البلاد، حيث تمشي و تحس كأنك تتعقب آثارهم.

حين اجتزنا معبر الملك حسين، و وصلنا الجانب الفلسطيني من المعبر، و ذلك الإحساس الرهيب الذي يتملكك و انت تقف أمام المجند الاسرائيلي، و دهشتي حين كنت أتحدث مع صديقتي و بلهجتي التونسية، كيف أجابني المجند بالعربية ، كنت أحس كأني أسير داخل شريط الأخبار مثل المسرنمة.

حين وصلنا أخيرا بعد رحلة شاقة، بدا لي كل شي مهيب و مغرق في القدم، ذلك القدم الذي تستنشق رائحته في الهواء و الأرض ، في الجبال و الطرق و المنعرجات الخطيرة، و هم يسلكون بنا طرق ملتوية عبر وادي النار بين رام الله و الخليل ، لتجنب حواجز الجيش الإسرائيلي. و الأصدقاء الفلسطينيون و هم يرقصون الدبكة داخل الحافلة لما اجتزنا المنحدر بسلام، و سائق الباص يبتسم لي و يخبرني أن ابنته ايضا اسمها ” ريم” و أنها جميلة و انه لذلك سيعيدنا سالمين الى رام الله.

مقام ابراهيم الخليل، و عناصر الجيش الإسرائيلي و هي تنظر إلينا بعداء كبير.

أريحا مدينة القمر، ما أزال أحلم منذ زرتها أحيانا أني أمسك القمر بيدي ، هناك فهمت لماذا يشبه العشاق حبيباتهم بالقمر، لانك فعلا تحس أن القمر قريب جدا لدرجة انه يخيل اليك انك ستلمسه لو مددت يدك. هذه المدينة سكنتني الى درجة مرعبة في هوائها شي غريب يجعلك لا تكف عن التفكير في العودة لها مجددا.

هناك أيضا ركبت ” التليفريك” للمرة الثانية، و مشينا على الدرب الذي كان يمشيه الرهبان للصعود الى ديرهم في قمة الجبل.

الألمان هم من اهدوا التليفريك للسلطة الفلسطينية، مرة اخرى لم نفعل شي لفلسطين رغم أننا نحبها.

رام الله المدينة الساحرة بشوارعها و بيوتها و مقاهيها و مطاعمها، تسهر و تفتح ذراعيها للحياة و الحب ، و ان طوقتها المستوطنات و خنقتها ، تقف لتقول أنها حية على أكمل ما يكون.

بيت لحم كنائسها و شوارعها و ازقتها القديمة، حيث تخاف و انت تمشي ان تدوس دون قصد منك دروب آلام كثيرة امتدت عبر التاريخ و تجذرت في المكان.

كل شئ في فلسطين يناديك، يستفز ذاكرتك بل يلكزها لتستيقظ و تعمل على تخزين الصور الأصوات الروائح الأماكن، لانك لا تعلم ان كنت ستعود يوما ما، و ان عدت فهل سيكون كل شي على حاله، في بلد لم يعرف منذ أكثر من نصف قرن غير المحاولات المتواصلة لطمس تاريخه و تراثة.

لماذا تذكرت اليوم رحلة فلسطين؟ في الواقع ما حدث امس من جدل حول التطبيع الثقافي و  تبادل الاتهامات، بين الكتاب من تونس و فلسطين و من بلدان عربية أخري هو السبب الرئيسي.

و في الحقيقة أنا شخص لا يحب الاصطفاف مع أحد و لا أحب أيضا  ممارسة مهنة الدفاع عن مواقف شخص ما ضد مواقف شخص آخر.

أؤمن ان كل شخص مسؤول عن خياراته و مواقفه الشخصية.

لذلك سأتحدث عن نفسي و عن موقفي الذي يمثلني وحدي، أولا ما يجري على نطاق عالمي اليوم، هو الركض نحو ” التطبيع” و تحويله الى أمر واقع و مفروغ منه، التطبيع بكل أشكاله سياسي و ثقافي.

لكن ما لا يفهمه المطبلون لهذا التطبيع أن إسرائيل صحيح انها تريد تطبيعا مع الدول العربية و تسعى له ، لكن ليس إيمانا بالسلام و الانسانية ، بل لفك الحصار من حولها، و بالمقابل لن يستفيد الفلسطينيون مطلقا من هذا التطبيع، لان إسرائيل ستماطل في المفاوضات و لن تمنحهم أي شي ، و مجددا نكون قد ضحينا بما تبقي من فلسطين و الفلسطينيين كما فعلنا منذ البداية. التطبيع فخ قاتل.

ما أهمية أن تترجم أعمال الكتاب العرب للعبرية ؟ سؤال مشروع أيضأ ، لكن ما يتغافل عنه البعض ربما عن جهل، ان اسرائيل تترجم منذ سنوان عديدة الأدب و التاريخ و الحضارة العربية و تدرسها في جامعاتها و في معاهدها الخاصة و ذلك في إطار ما يسمي باعرف عدوك أو أدرس عدوك . و بتالي الترجمة للعبرية برأيي المتواضع لا تعد أنجازا كبيرا.

ربما نحن من علينا أن ندرس الأدب الإسرائيلي و الفكر الصهيوني علنا نفكك شفرات عدونا ، و ان كانت بعض الدول العربية قد توقفت عن اعتبار إسرائيل عدو و على رأسها دول يسعى جل الكتاب العرب للحصول على جائزة من جوائزها المالية الضخمة

المبادئ لا تتجزأ بعلمي.

التطبيع نعم جريمة  لأننا نعرف جيدا أنه سيقضي نهائيا على ما تبقي من فلسطين، و بهذا المعني أنا ضده، سأكون مع أي شئ يضمن حل عادل للشعب الفلسطيني يسمح له بدولة مستقلة، و بعدها نتحدث عن جسر ثقافي و معرفي اما قبل ذلك فهذا يسمي جريمة.

أحلم أن أعود الى فلسطين و أراها محررة، و أن اعانق أصدقائي و أحبابي هناك، من فتحوا لي ييوتهم و قلوبهم بكل حب، أتمني ان أرى رام الله عروس و قد تجملت و تخلصت من المستوطنات التى تشوه جسدها، و أتمنى ان يجد الشعب الفلسطيني السلام و ان يتنسم حرية لا يحددها معبر و لا حواجز جيش .

ما يربطني بفلسطين اكثر بكثير من شعارات، بل أمر شخصيٌ بحت سأكتب عنه يوما كما عشته ، لانه شكل جزء هام من حياتي الشخصية التى لم أتحدث عنها بعد مطلقا .

في انتظار ذلك تبقي فلسطين داخلنا أكبر بكثير من فكرة وطن إنها أيضا شكل من أشكال الوجود هكذا نحمله داخلنا و لا يمكننا التنصل منه.

#ريم_قمري

* الصورة : متحف محمود درويش رام الله بامضاء المصور الصحفي أسامة السلوادي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى