هل عادت أميركا متأخّرة إلى النظام العالمي؟* الدكتور جيرار ديب

النشرة الدولية –

استبدل الرئيس الأميركي جو #بايدن، بشعار الرئيس السابق دونالد ترامب “أميركا أولاً” الاستفزازي، شعاراً جديداً مقبولاً من الحلفاء، وأكثر ليونة في التعاطي مع الخصوم في القضايا الشائكة، برغم لغة التهديد والوعيد التي يستخدمها في خطاباته، ولا سيما عبارة “أميركا لن تسامح”.

 

الساحة الدولية التي تركها الأميركي في سياسته الانعزالية خلال السنوات الأربع التي سكن فيها ترامب البيت الأبيض، سبّبت فراغاً استغلّته الدول الصاعدة والهادفة إلى دور لها على الساحة الدولية، وعلى رأسها الصين الاقتصادية، ومخطّط رئيسها شي جين بينغ “طريق واحد، حزام واحد”، الذي سيعمل على توحيد الجهود الدولية ليكرّس تحالفاً بقيادة المارد الصيني، الذي استفاق لإعادة إحياء طريق الحرير. هذا الطريق هو عبارة عن شبكة من المسارات والطرق التجارية التي تربط الصين بجيرانها، وبالقارّة العجوز، ويعود تاريخه إلى نحو القرن الثاني قبل الميلاد.

 

إضافة إلى المبادرة التي طرحها الرئيس الصيني عام 2013، التي ترمي إلى إعادة ربط الصين بالوجهات الدولية في آسيا وروسيا وأوروبا، تعمل الصين مباشرةً على سحب البساط من الهيمنة الأميركية على مفاصل العالم، لأنّها باتت تؤمن بالفكرة التي لخّص بها البحّار الإنكليزي والتر رالي، فكر المدرسة الجيوبوليتيكية الألمانية بالقول: “إنّ من يسيطر على البحر يسيطر على التجارة العالمية، ومن يسيطر على التجارة العالمية يملك الثروة، ومن يملك الثروة يملك العالم كلّه”. فعلى ما يبدو تسير الصين اليوم في هذا التوجه، فكيف إذا عمدت القيادة الصينية لامتلاك ترسانة عسكرية قد تكون الأضخم في العالم؟

 

لا شكّ في أنّ العقدة الصينية، هي اليوم مصدر قلق للسياسة الأميركية الجديدة، ومصدر قوّة لخصوم #الولايات المتحدة الأميركية. فالجمهورية الإسلامية في إيران، تستغلّ وهن اللاعب الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وتريد جرّه مذلولاً إلى تفاوضاتها النووية، من دون قيد أو شرط. فهي تمسك بيدها الورقتين الصينية والروسية الرابحتين، اللتين تظهرهما في وجه الإدارة الأميركية، ما يدفع بالأميركي لاختيار لغة الدبلوماسية واللين في التعاطي مع هذا الملف، برغم مخاوف حلفاء أميركا في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل.

 

لا تهادن إيران ذات النفوذ الكبير في المنطقة، عبر ميليشيات داعمة لها منتشرة في أكثر من منطقة عربية. ولن تساوم على امتلاكها القنبلة النووية، برغم تصريحات مسؤوليها، وعلى رأسهم الرئيس حسن روحاني، الذي عبّر مراراً عن عدم رغبة إيران في ذلك. لكنّ السؤال يبقى: من سيربح في لعبة عضّ الأصابع بين أميركا وإيران في جلب الآخر إلى التفاوض بشروطه؟ فبحسب تصريح الرئيس بايدن بالدعوة الى إحياء لجنة 5₊1 دليل الى تقديم مبادرة حسن نيّة للجانب الإيراني.

 

إنّ سياسة النعامة التي اتّبعها ترامب مع الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً سوريا وليبيا، أضعفت الموقف الأميركي من جهة، ودفعت بالروسي للتقدم وتثبيت وجوده على أكثر من ساحة من جهة ثانية؛ بدءاً من أوكرانيا، وميناء سيفاستول، وتعمّد بوتين وضعه تحت السيطرة البحرية الروسية منذ عام 2008، إلى ميناء طرطوس، ودخول قوات فاغنر في الشمال الأفريقي وساحله، بالإضافة إلى مدّ اليد للّاعب التركي، برغم تاريخية الصراع بين الإمبراطوريتين، ولا سيما مشروع السيل الشمالي لتدفق الغاز إلى العمق الأوروبي، وصفقة منظومة الدفاع الصاروخية إس 400 بين تركيا وروسيا، والقلق الأميركي بينهما. كلّها دلالات على فشل الإدارة الأميركية بلجم المدّ والتوسّع الروسي والتركي معاً على أكثر من ساحة، ولا سيما الشرق أوسطية، وصولاً إلى القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا، والنهاية غير السعيدة في إقليم ناغورنو كاراباخ.

 

إضافة إلى اعتماد بايدن، ولو بطريقة غير مباشرة، على تسليم حلفائه الأوروبيين رزمة من القضايا الدولية، وبخاصّة الفرنسي في الملف اللبناني، والفرنسي والألماني في الملف النووي الإيراني. ناهيك بإعادة الدور للحلف الأطلسي (الناتو)، الذي صرّح رئيسه بالأمس القريب عن مضاعفة نفوذ قوّات الناتو في العراق، لتغطية الدور الأميركي الذي يتعرّض لهجمات صاروخية من حلفاء إيران هناك.

 

صحيح أنّ الساحتين العالمية والشرق أوسطية، تشهدان انحساراً كبيراً للنفوذ الأميركي، ولا سيما سياسة العصا التي كانت ترعب العالم، والعقوبات الاقتصادية التي باتت أكثر من دولة تتحايل عليها، لا بل تفكّر ملياً بكسر هيبة الدولار كعملة رئيسية من خلال طرح التبادل بين عملات الدول، لكنّ السؤال الرئيسي يبقى: هل سياسة الانسحاب التكتيكي الأميركي وسط جائحة كورونا، وتقلّص الاقتصاد العالمي، هي سياسة أميركية قديمة تعيد هيكلة قوّتها خلف حدودها، وتنظّم وتعيد ترتيب بيتها الداخلي، بعد الأزمات الجمّة التي تحيط بإدارة بايدن، والتركة السمجة التي تركها ترامب، فتترك اللاعبين الجدد يتقاتلون في ما بينهم على التفتيش عن مصالحهم، ومن ثم تعود؟ أم هي فعلاً استسلام أميركي للواقع المفروض، بعد عودتها متأخرة، ونحن على أبواب ولادة عالم جديد بقيادة جديدة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى