دردشة على ضفاف ثورتي لبنان وسوريا* فارس خشّان

النشرة الدولية –

الحرة –

لا “ثورة 14 آذار” اللبنانية كانت خطأ تاريخياً، على الرغم من أنّ أحداً لن يحتفل بها مع حلول ذكراها السنوية السادسة عشرة، بأكثر من تغريدة “رفع عتب”، ولا “الثورة السورية” التي تطوي عقدها الأوّل، على نقاشات يحتكرها حدّا طغيان بشّار الأسد، من جهة والإرهاب الراديكالي، من جهة أخرى.

 

إنّ الاعتقاد بصحّة هاتين الثورتين، لا يعني أنّهما لم تُحبَطا في تحقيق الأهداف المباشرة التي كانت مرجوّة منهما، فلا اللبنانيون الذين جمعتهم المصائب، في ضوء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولا السوريون الذين مزّقوا صمتهم، في ضوء جريمة تعذيب أطفال درعا، كانوا يتوقعون أن يوصل هذا الشغف بالسلطة، من جهة وهذا الانهيار القيمي في المجتمع الدولي، من جهة أخرى دولتيهما الى الكارثة التي تعانيان منها حالياً.

 

لماذا الاعتقاد بصحة هاتين الثورتين؟

 

ببساطة، لأنّ الواقع الذي انتفض عليه هذان الشعبان، كان واقعاً إجرامياً. اللبنانيون يعرفون ماذا عانى السوريون، والسوريون يدركون ماذا عانى اللبنانيون.

 

باسم الاستقرار فرضوا القتل، باسم محاربة العدو هتكوا الكرامات، باسم رفاهية الشعب سلّطوا العصابات، باسم الدفاع عن الاعتدال مارسوا تجارة الإرهاب، وباسم حماية المجتمع سرقوا الجميع، وباسم المقاومة…قاولوا.

كان السكوت على هذا الواقع الجهنّمي هو الخطأ الكبير، ولم يكن ثمّة حل متاح سوى الثورة.

 

إنّ الثورة لا تصنعها الحسابات الدقيقة، ولا مناقشة الجدوى، ولا الاهتمام بموازين القوة. الثورة يصنعها الغضب، فهي مثلها مثل الصراخ الذي لا يبدأ، إلّا عندما يتجاوز الألم حدود التحمّل.

 

والضحايا الذين يسقطون، في الثورة ليسوا، بالنتيجة، سوى تجميع، في فترة زمنية بسيطة، لجميع هؤلاء الذين كان الطغيان سيقتلهم، في مدى زمني أوسع.

 

والكوارث التي تنتج عنها، لا يتحمّلها من انتفض مطالباً بحقوقه وبكرامته وبرفاهيته، بل هؤلاء الذين بدل أن يقروا بما فعلوه ضد الشعب، يعمدون الى القمع بالمجازر والاعتقال والتعذيب والترهيب والإرهاب.

 

إن ثورتي مارس اللبنانية والسورية نجحتا، بمجرد أن اندلعتا وأسقطتا الأقنعة عن وجوه الوحوش الحاكمة والمسوخ التي صنعوها، في مختبراتهم الفرانكشتانية.

 

ولا تقاس الثورات بنجاحها الفوري. تلك التي تنجح، بسرعة لا تكون ثورة، بل تكون انقلاباً دبّرته أجهزة المخابرات، مثل الثورة الإسلامية في إيران، على سبيل المثال لا الحصر، وتكون لها أهداف استراتيجية، في إطار صراع دولي محتدم، كالحرب الباردة التي كانت ناشئة بين الغرب من جهة والإتحاد السوفياتي من جهة ثانية.

 

وهذا النوع من الثورات-الانقلابات يضاعف المآسي بدل أن يخفّف منها، ولا يمكنه أن يحمي نفسه إلّا بالوسائل الذي زعم أنّه يثور ضدّها.

 

أمّا الثورات الحقيقية فتهرم قبل أن تُنتج، مثل الثورة الفرنسية التي بعدما قتلت ملكاً وجدت نفسها ترزح تحت عبء إمبراطورين وأكثر من ملك. إنّ الجمهورية التي حلمت بها الثورة الفرنسية طالت إقامتها كثيراُ في الرحم، ولكنّها، بالنتيجة، ولدت وتألّقت وعمّ نورها أرجاء المعمورة.

 

إنّ ثورتي لبنان وسوريا نجحتا وإن لم تنتجا بعد.

 

نجحتا ليس في كشف الحكّام وميليشياتهم وارتباطاتهم، فحسب بل نجحتا أيضاً في إخراج أسوأ ما كان يعتمل من أورام في المجتمع المقموع.

 

الشعب خسر الموت البطيء عندما سرّع القمع وتيرة القتل، فيما خسر النظام نفسه وأدواته الإرهابية، سواء التي تدافع عنه أو تلك التي تسوّق له بزعمها التصدّي له.

 

قد تكون اللحظة السياسية الراهنة غير مؤاتية للتخلّص من جثّة النظام الحاكم التي تخرج منها الفيروسات الميليشياوية والميكروبات الإرهابية، ولكنّ المكان الطبيعي للجثث هو القبر. والشعبان اللبناني والسوري شيّداه، ليس من طين صامت، بل من عظام شهدائهم وصرخات المعتقلين وأفئدة المعذّبين.

 

صحيح أنّ الثوّار لم تلمع أسماؤهم في العالم، ولكنّ الصحيح أكثر أنّ أسماء الحكّام أصبحت مثيرة للغثيان، وأفعالهم طُبِعتْ في لوائح الإرهاب، وصفاتهم رُمِيتْ في مزابل الحاضر، وتاريخهم نُقش في قرارات المحاكم، على امتداد العالم.

مع حلول الذكرى السادسة عشرة ل”ثورة 14 آذار” اللبنانية، أتذكّر تلك الحوارات التي كانت تحصل، في الساحات وفي الصالونات، بيني وبين شابات وشباب نشطوا بقوة في “ثورة 17 أكتوبر” التي عرفها لبنان في خريف العام 2019.

 

كان هؤلاء يلومون من نشطوا في “ثورة 14 آذار” على فشلهم في بناء وطن يليق بهم، وسماحهم للمجرمين والفاسدين بأن يستلموا السلطة، وولائهم، طويلاً، لهؤلاء الذين سرقوا الناس وهدّموا الدولة وبدّدوا أحلام الشعب.

 

كاد هؤلاء، بفعل عظيم حماستهم، أن يوجهوا إلى من ثاروا في 14 مارس 2005 تهمة الخيانة العظمى، ولهذا دعوهم إلى الجلوس على مقاعد المشاهدين، ليتعلّموا منهم كيف تكون الثورات الحقيقية والمنتجة.

 

كان يومها الدفاع عن “ثورة 14 آذار” ضرباً من المستحيل. لا أحد يريد أن يسمع شرحاً. الجميع كانوا يطالبون باعتذار.

 

ولبّى كثيرون مثلي رغبة هؤلاء فجلسنا على مقاعد المشاهدين. كنّا قلباً وقالباً معهم. صفّقنا لهم وحمّسناهم ودافعنا عنهم، ولكن لم يكن بيننا من لا يعرف النتيجة المباشرة لـ”ثورة 17 أكتوبر”، لأنّنا كنّا نرى أن ما أفسد “رحم” ثورة 14 مارس 2005، يمد يده، مبكراً، إلى رحم “ثورتهم”، لينتزعها.

 

إنّ الثورة متى عقدت صفقة، باسم الواقعية هنا وباسم موازين القوى هناك، تفشل.

 

نجحت ثورة 14 مارس 2005 إلى تلك اللحظة التي بدأ فيها كل من استفاد منها في المساومة، وفي التذاكي، وفي الخوف.

 

ثورة 17 أكتوبر 2019، بدأت، للأسف، من حيث انتهت ثورة 14 مارس.

 

ولكن، إذا كان هذا هو الجزء المظلم من ثورتَيْ لبنان، وهو متوافر في الثورة السورية أيضاً بفعل استغلالها من القوى الإقليمية، فإن الجانب المضيء يتوافر في أنّ ثقافة الخنوع والخضوع انتهت وبدأت ثقافة الشجاعة. وحيث تنتهج الشعوب ثقافة الشجاعة تُعقَر أرحام الحكّام، وتنبت للشعوب أرحام خصبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى