مرة أخرى.. لمصر لا لأحد* مالك العثامنة

النشرة الدولية –

(مقابل منزلي في مدينتي البلجيكية، سكة حديد؛ ومرتين أسبوعيا وفي كل فصول السنة تمزق عتمة الليل أضواء فرق الصيانة الكاشفة لتضيء السكك الحديدية للعمال الذين يعملون حتى وقت متأخر، في صيانة ولحام الطريق الحديدي.

هؤلاء العمال يحصلون على أعلى الرواتب، وهم على تأهيل معرفي وعلمي رفيع في مجال تخصصهم، ولهم نقابات غير معنية بغير خدمة منتسبيها ومصالحهم.

ولو حصل حادث ، وقد حصل قبل عامين تقريبا، فإن الضرر يكون بحده الأدنى لأن المختصين يحسبون حساب كل الاحتمالات بما فيها الأسوأ منها، والوزير أو المسؤول السياسي غير مطلوب منه الاستقالة في حال وجود تبرير منطقي في تدرج هرم المسؤولية، والأهم دوما هو سلامة البشر.

ففي دولة المؤسسات والقانون، المسؤولية في التقصير تتعلق بتلك المؤسسات حسب اختصاصها، والتراتبية الهرمية في مواقع المسؤولية أساسا لا تقبل المحسوبية ولا الواسطة، بل الكفاءة والخبرة فقط.)

الفقرة أعلاه بكاملها اقتباس، والاقتباس من مقال كتبته على موقع الحرة في مارس 2019 بعنوان “مصر إذ تخرج عن السكة”، وكان على خلفية حادث قطار مفجع شهدته محطة رمسيس وقد “انزلق القطار” وانتهى انزلاقه إلى مأساة مروعة.

وقتها، كانت المأساة الأكبر في تعاطي الإعلام المصري مع الحادث، حتى أن مذيعا من طاقم “الهزل الفضائي” حاول ربط حادث محطة رمسيس بأحداث سبتمبر ٢٠٠١ في نيويورك وهو يلقي مقدمته الطويلة والمملة والعبثية قبل أن يمارس عملية اتهام وتحقيق سادي مع “المتهم” سائق القطار.

(ربما يكون تأثر غالبية الإعلام المصري بالمنهجية الأمنية في خطاباتهم يعود إلى متلازمة ستوكهولم، تلك التي تجعل المخطوفين يقعون في حب وغرام خاطفيهم).

قبل أسبوع، شهدت مصر مأساة جديدة في منظومة سكة الحديد حين اصطدم قطاران ببعضهما، كانت المأساة مفجعة أكثر لأن الضحايا وأثناء الفاجعة الدموية بالضبط ومن بين الحديد المنصهر باللحم فتحوا البث المباشر على أجهزتهم الخلوية، كانت المشاهد تهتز ويهتز معها الوجدان كله وصوت الشاب الأشعث الأغبر “ولا يستجاب له رسميا” وهو يصرخ: إحنا بقينا رخاص قوي.

بالتزامن، كان العالم كله يقف على قدم واحدة وقد تعرضت قناة السويس “لتجلط معدني” وقف بالعرض في مياهها، فأوقف الحركة التي لا تتوقف بالعادة في مجرى القناة الذي يصل القارات الثلاث ببعضها لا المتوسط بالأحمر وحسب.

في تلك الحادثة، كان الإعلام “الإخونجي” خصوصا بقيادة المصريين المعارضين لنظام الحكم في بلادهم هم الأكثر مهزلة في ضفتي الإعلام المصري “المؤيد والمعارض”، فبينما كان الإعلام المصري في القاهرة يلتزم الصمت، والعالم كله يتحدث عن السفينة الجانحة، كان إعلام “الإخوان” مثيرا للحنق بشماتته وتركيزه على أجندته السياسية بدلا من التغطية للحدث والجهود التي يبذلها العالم كله لإنقاذ القناة من جلطتها “المعدنية”.

كانت السخرية “موجهة”، وكان يمكن تفهم عدة لقطات ساخرة متداولة، لكن ما حدث هو موجة من السخرية كان واضحا أنها موجهة ومدروسة وممولة.

لا أقف هنا ضد حرية الرأي وأنا من محبي السخرية خصوصا المصرية، لكن هناك حد فاصل بين السخرية والشماتة من “مصر”، التي هي أكبر من كل الأطراف المتنازعة على “ملكيتها” واحتكارها.

(وحتى لا يتم اتهامي بالتعميم فإني من المعجبين بالمعالجة الساخرة لبرنامج “جو شو” والذي يعرف بمهنية ما لديه من طاقم محترف الحدود الفاصلة بين فن السخرية وتهريج المسخرة).

وحتى بعد تحرير السفينة الضخمة، بقي ذلك الإعلام الذي هجنه التمويل والأجندات على موقفه من السخرية من جهود الشعب المصري، هو ذاته الشعب الذي دفع أثمانا مكلفة لتلك القناة منذ حفرها بأجساد المصريين ودافع عنها في عدوان ثلاثي ودفع بالهزيمة ثمن مجازفة سياسية خاسرة بإغلاقها عام ١٩٦٧.

لعلي أجد في ذلك الفتى “الأشعث الأغبر الذي لا يستجاب له” في حادث القطار حضورا إعلاميا جادا وحقيقيا أكثر من كل الإعلام المصري في القاهرة “وكله رسمي بالمناسبة”، وأجد فيه صدقا بالحب لبلاده في صرخته الموجعة أكثر من مرتزقة المال في قنوات إعلام الإخوان وقد سقطوا أخلاقيا في الامتحان الأخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى