جمهوريّة مزارع شبعا!* حازم صاغية
النشرة الدولية –
مؤخّراً عادت مزارع شبعا إلى الواجهة. ذكّر بها السفير الأميركيّ السابق فريدريك هوف الذي كتب أنّ بشّار الأسد قال له في أوائل 2011 أنّ تلك المزارع سوريّة. في الوقت نفسه، ذكّر بها رئيس الحكومة اللبنانيّة السابق فؤاد السنيورة في حديث إلى «الشرق الأوسط»، مُعرباً عن مخاوفه من أن يتحوّل ترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة – الإسرائيليّة إلى «مزارع شبعا أخرى»، في إشارة إلى التعثّر الذي يعيق مساعي الترسيم.
والحال أنّ مزارع شبعا يُفترض أن لا تحتاج إلى التذكّر والتذكير لأنّها ينبغي ألاّ تكون أصلاً موضوعاً للنسيان. إنّها حالة مقيمة وبقوّة معنا ولو بأشكال مُحوّرة ومُداوِرة. أكثر من هذا: إنّها المدخل الأدقّ لفهم ما يجري راهناً في لبنان، بل لفهم لبنان الراهن الذي يدور حول مزارع شبعا.
فالمعروف جيّداً أنّ تلك الرقعة مشمولة بالقرار 242 حول الأراضي العربيّة التي احتلّتها إسرائيل في 1967، لا بالقرار 425 المتعلّق بالأراضي اللبنانيّة التي احتُلّت عام 1982. ذاك أنّ الدولة العبريّة انتزعت المزارع من يد القوّات السوريّة في حرب حزيران، بعدما كانت تلك القوّات قد تمركزت فيها في الخمسينيّات حيث أقامت مخافرها وجمركها ونقاط تفتيشها. السلطات اللبنانيّة يومذاك غضّت النظر عن المزارع وضحّت بها على مذبح «الأخوّة».
لكنّ الانسحاب الإسرائيليّ من طرف واحد، عام 2000، خلط الأوراق. السلطة اللبنانيّة ومعها سلطة الوصاية السوريّة سارعتا إلى تسمية ما حدث «مؤامرة الانسحاب». الشعب اللبنانيّ بات مُطالَباً، بين ليلة وضحاها، بأن يعانق قضيّة المزارع التي اكتُشفت على حين غرّة، وأن يعتنق، بناء عليها، عقائد الوحدة التي تربطنا بنظام الأسد مساراً ومصيراً.
الحماسة لتحرير أرضٍ لم نكن قد سمعنا بها بتاتاً عصفت بنا وباتت تتحكّم بحياتنا، هي التي لم يسبق أن كُتبت عنها قصيدة واحدة، كما لم تُغنّ لها أغنية واحدة. حتّى مطربة تتفجّر مقاومةً كجوليا بطرس لم يصدح صوتها بالغناء لمزارع شبعا. مارسيل خليفة أيضاً فاتَهُ الغناء للمزارع. مع ذلك غدا الويل، والويل وحده، نصيب الذين لا تضربهم الحماسة لتحريرها.
إسرائيليّو «معسكر السلام» الذين قالوا: ننسحب من لبنان وتنتهي المشكلة، ثبت أنّهم على خطأ. فمزارع شبعا بدت كافية لإحياء داحس والغبراء إلى ما لا نهاية، خصوصاً وقد أضيفت إليها، بعد فترة قصيرة، قرية الغجر، فأين المفرّ إذاً من المقاومة؟ الاكتشافان المتتاليان حسما الأمر نهائيّاً. معسكر السلام الإسرائيليّ الكبير حينذاك، انهار رهانه على الانسحاب الذي اعتبرناه «مؤامرة»، فبدأ يتصدّع لمصلحة اليمين القوميّ والتوسّعيّ.
أمّا أن يقال إنّ وضع الشرق الأوسط وتاريخه الحديثين ارتبطا جزئيّاً بمزارع شبعا فليس من قبيل المبالغة. «حزب الله» الذي أجازت له المزارع أن يحتفظ بسلاحه، على رغم اتّفاق الطائف، هو نفسه الحزب الذي ما لبث أن خاض حرباً في سوريّا وتدخّل في العراق وفي اليمن. هكذا، وبمعنى ما، اندلع اللهب الذي عمّ المنطقة لاحقاً من تلك الشرارة المقدّسة.
ومحاطةً بكلّ هذا اللغط، ولكنْ أيضاً بكلّ تلك الأهميّة، تحوّلت مزارع شبعا مصدراً تأسيسيّاً للبنان ما بعد الانسحاب الإسرائيليّ. المنطق الذي حكم تلك العلاقة كان بسيطاً: ما من شيء يُحلّ، وكلُّ شيء معلّق، ما دام أنّ القضيّة الأمّ لا تُحلّ.
وبالفعل، وبدرجات متفاوتة من الإلحاح، وعلى نحو أو آخر، لم يعد يُبتّ شيء بتّاً نهائيّاً، ولم يعد يؤسَّس لشيء قابل للحياة: لا في المسائل القديمة نسبيّاً، العالقة والمتفاقمة، كالفساد والكهرباء والمصارف، ولا في حقيقة انفجار المرفأ أو ترسيم الحدود البرّيّة والبحريّة. الرئاسات والحكومات باتت لا تولد، حين تولد، إلاّ بشقّ النفس. أمّا البرلمان، وعلى ما دلّت التجارب منذ 2005، فأكثريّته لا تحكم. كلّ السلطة لمزارع شبعا وما يتطلّبه إبقاؤها سيفاً فوق رأس السياسة والاجتماع اللبنانيّين.
هل من التآمريّ إذاً أن يفكّر واحدنا بوجود مؤامرة فعليّة لإماتة لبنان مقابل إحياء مزارع شبعا، بل تخليدها. لنتأمّل قليلاً: قروض المؤسّسات الدوليّة شبه ممنوعة، وممنوع أيضاً أن تتشكّل ظروف تسمح للّبنانيّين باستخراج نفطهم والحصول على 40 مليار دولار هم في حاجة قاتلة إليها. ممنوعٌ عمليّاً أن يتقدّم التحقيق في جريمة المرفأ، وحين تهمّ شركات ألمانيّة وفرنسيّة بإبداء استعدادها لإعادة إعماره تنهال الشتائم على الألمان والفرنسيّين. العلاقات العربيّة والدوليّة سبب وجيه لتخوين من يدعو إلى توطيدها. الحياد طبعاً ممنوع…
بالتالي، هل من التآمريّ أن نربط بين مركزيّة مزارع شبعا – التي راح «المحرّرون» الذين انبثقوا منها «يحرّرون» سوريّا والعراق واليمن – وبين نظريّات «التوجّه شرقاً» التي تُحدث انقلاباً كاملاً ونوعيّاً على ما تبقّى من لبنان؟
إنّ الدقّة في وصف ما يجري توجب علينا تسمية الكلّ باسم الجزء، خصوصاً أنّ الكلّ، أي لبنان، هزيل ومُفقَر ومهزوم بكلّ المعاني، فيما الجزء، أي مزارع شبعا، مزدهر وواعد يشرئبّ من المحلّيّ إلى الإقليميّ والعالميّ. جمهوريّة مزارع شبعا أو لبنان مزارع شبعا تسميتان في محلّهما تماماً.