“المزارع” السورية التي دمّرت الدولة اللبنانية* فارس خشّان
النشرة الدولية –
“إنّ إنقاذ لبنان مستحيل إذا لم تبدأ إعادة بنائه من الصفر، فكل ما هو قائم فيه، على أي مستوى كان، هو عائق”.. هذا الكلام أبلغني إيّاه أحد معارفي، قبل سبعة أشهر، نقلاً عن مسؤول مخابراتي أوروبي رفيع، كان قد عاد، للتو، من لقاء معه.
يومها، اكتفيتُ بتدوين هذه الملاحظة في مفكرتي الخاصة، وامتنعتُ عن استخدامها، لأسباب كثيرة قد يكون أهمّها “ضخامتها التيئيسية”، في مرحلة كان الجميع “مسحوراً” بأحلام “المبادرة الفرنسية”.
في الأيّام القليلة الماضية، وفي ضوء كثير من الإشكالات التي أضافتها الطبقة الحاكمة إلى الكوارث المتراكمة، عاد هذا الكلام إلى ذاكرتي، فعدتُ إلى مفكرتي، حيث حاولتُ إسقاط آخر التطوّرات على “تشخيص” المسؤول المخابراتي الأوروبي الرفيع المستوى.
وكانت البداية، من ملف إعادة نظر لبنان في تحديد حقوقه البحرية على الحدود الجنوبية الذي نسف المفاوضات التي كانت قد بدأتها الأمم المتحدة، بين لبنان وإسرائيل، بواسطة الولايات المتحدة الأميركية ووساطتها.
عندما وافق لبنان على الإنخراط في هذه المفاوضات، قدّم المسؤولون أسبابهم الموجبة، بطريقة تُظهر أنّ هذا القرار خطوة لا بد منها لإنقاذ لبنان، في ظل ما يعانيه من انهيار مالي واقتصادي واجتماعي، ودعوا اللبنانيين إلى الثقة بغدهم القريب المملوء.. نفطاً.
يومها، ذهب لبنان إلى المفاوضات، على أساس الوثائق التي أودعها لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، حيث يحدّد المساحة التي ينازع إسرائيل عليها بـ 854 ألف كلم مربع، ولكن، بمجرّد خسارة دونالد ترامب “العقابي” للانتخابات الرئاسية الأميركية، نسف لبنان “القاعدة التفاوضية”، وراح يطالب بمساحة أكبر بكثير، بحيث أضيفت مساحة 1400 كلم مربّع إلى المساحة التي كانت قد حُدّدت سابقاً، الأمر الذي نسف المفاوضات.
وكان ملاحظاً أنّ “نسف المفاوضات” جاء قبل أن يُثبت لبنان، وفق إجراءاته الدستورية، مطالبه بحقوقه “المستحدثة”، ذلك أنّ الوثائق المودعة لدى الأمم المتحدة لا تتناسب مطلقاً مع هذه المطالب.
ووراء الإستعجال بنسف المفاوضات، بعد كسب جو بايدن للانتخابات الرئاسية الأميركية، يقف على الأرجح، قرار إيراني بإعادة تجميع أوراق القوة الإقليمية، لاستخدامها، على طاولة المفاوضات “النووية” التي كانت رغبة فريق بايدن بالمسارعة إليها، معروفة.
وعليه، لقد تسبّبت الطبقة الحاكمة في لبنان بنسف مفاوضات كانت باعتها أملاً ورجاء للبنانيين، لتدخل في صراع سياسي داخلي جديد، يُضاف إلى الصراعات التي تسبّبت بالكارثة اللبنانية وتفاقمها، يوماً بعد يوم. وعندما تسأل عن الجهة التي تقف وراء هذه الخطوة اللبنانية، ليس هناك في الكواليس، سوى جواب واحد: “إنّه حزب الله”.
وليس من باب “البلاغة الأدبية” أن تجد عدداً من السياسيين اللبنانيين، يسارعون إلى إبداء مخاوفهم من أن تكون وراء هذه الخطوة التي أقدمت عليها الطبقة الحاكمة، نيات تهدف إلى إنشاء “مزارع شبعا جديدة”.
وعبارة “مزارع شبعا” في القاموس السياسي اللبناني لا تعني إلّا شيئاً واحداً: إنّها الحجّة التي سبق أن استعملها “حزب الله” بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان لإضفاء شرعية على ترسانته المسلحّة التي يستعملها للتحكّم بلبنان وشعبه واقتصاده ومصيره باستتباعاته الخارجية المعروفة.
وعادت “مزارع شبعا” إلى الضوء، مؤخّراً، من خلال “مذكرات” السفير والمبعوث الأميركي السابق فريديريك هوف، والمقابلات التي أجراها تسويقاً لكتابه الجديد، حيث كشف أنّ رئيس النظام السوري، بشّار الأسد، كشف له، في شباط 2011، في لقاء جمعهما لتهيئة الأرضية لإطلاق مفاوضات إسرائيلية-سورية، أن “مزارع شبعا” سورية وليست لبنانية.
وكان قد تعرّض للتخوين وشتى تهم العمالة كل لبناني قال إنّ “مزارع شبعا” تابعة للسيادة السورية، على اعتبار أنّه يحاول، بذلك، نزع غطاء “المقاومة” عن “حزب الله”.
وما يسمى بـ”المقاومة”، تستعمل سلاحها، في الداخل اللبناني وسوريا واليمن والعراق، وحيث شاء “الحرس الثوري الإيراني”، من دون أن تقوم بأي “فعل مقاوم” في مزارع شبعا.
وطريقة استخدام سلاح غطّته “لبنانية” مزارع شبعا، تسبّبت، بجزء كبير من الويلات التي يعاني منها لبنان، حالياً، إذ إنّ هذا السلاح يأتي بحكّام ويطيح بآخرين، يُخضع القرارات الوطنية، بالإكراه حيناً وبالترغيب أحياناً، لما يرتأيه مناسباً، يُفسد علاقات لبنان الإقليمية والدولية، ينفّر المستثمرين، يُقزّم الاقتصاد، يُرعب رؤوس الأموال.
بهذه الخلفية التي يتم اعتمادها في التعاطي مع القضايا اللبنانية الكبرى، يستحيل أن يستشرف “واقعي” واحد إنقاذاً للبنان، ذلك أنّ انهياره وليد منهجية تدميرية تتحكّم بكل مفاصله.
إنّ هذه الجولة السريعة على “مزارع شبعا”، بشقيها الفعلي (العقاري) والمجازي (البحري) يمكنها أن تفسّر كلام المسؤول المخابراتي الأوروبي عن “بلاد الأرز”، فالدعائي لا يصنع حقيقة، والتابع لا يصنع استقلالاً، والظالم لا يصنع عدالة، والأناني لا يقدّم الخير العام، والمرتزق لا يصنع مقاومة، والمراهن لا يؤتمن على قضية، والجبان لا يعلّم الشجاعة، وعلى الرمال لا تُبنى القلاع.