من جماليات فن القول العربي جدلية الحبِّ في «حببتُكَ قلبي» للمتنبي

النشرة الدولية – أ.د. خليل الرفوع/ أستاذ الأدب العربي في جامعة مؤتة –

ترك المتنبي سيفَ الدولة الحمداني في حلب باحثا عن بديل قيادي عروبي في مصر، فلم يجد ذلك الرمز العربي ولم يجد خيلا ولا مالا يُهْدَاهُمَا في فسطاط حاكم مصر كافور الإخشيدي، فحَنَّ إلى حلب وسيدِ قلعتها، ونثر وجدَه ونفحَه وشوقَه في قصيدة تختصر عشق الشعراء وكبرياءَهم بكلماتٍ خالدة، تلكمُ القصيدة اليائيةُ التي ابتدأها المتنبي بمطلع افتتاحيي يقتنصُ المتناقضات في فكر الشاعر فتتجلَّى أمامَ القارئ:

كفى بكَ داءً أنْ ترى الموتَ شافيا

وحسبُ المنايا أنْ يَكُنَّ أمانيا

تمـنيَّـتَها لمَّا تمنـيـتَ أنْ ترى

عدوًّا فأعيا أو صديـقا مُداجِـيَا

«كفى» توجز رفضًا لحالة واقعية قد ازدادت وجعا حتى لقد أضحى الموت دواءً يُشفي، وهو نقيض لحياة قد أسقمته.هنا التضادُّ التام بين المتنبي الشاعر والمتنبي الإنسان ليصلا شعريًّا إلى تكامل عاطفي في ظلال حالتين متنافرتين: حالة الماضي حيث التعالق مع سيف الدولة، والحاضر ممثلا بالوقوف أمام كافور الإخشيدي كأنه عِقابٌ نفسي لتمرده على الماضي، ومن الزمنين تنبلج حقيقةُ الشاعر التي لم يستطع إخفاءها وهي الحب لسيف الدولة فهي الشفاء.

تمنِّي الموت ليس بنافع، واستحضار المنايا هو استحضار لتاريخها في الشعر العربي، فهي في الفكر الوثني الجاهلي رُسُلُ الآلهة المكلَّفة بقبض أرواح المحاربين في دائرة الحرب، هكذا كانت في الشعر الجاهلي وهكذا استمرت دلالتها منْ بعْدُ، ولعل لها ارتباطا دلاليا عقديًّا بمَناة الثالثة الأخرى، فالمتنبي لا يريد موتا طبيعيا بل يتمناه موتا في دوائر الحرب حيث المنايا متخصصة في قتال الأبطال وقبض أرواحهم، أمَا وقد أصبح في مصرِ كافورَ حيث لا عدوَّ ظاهرٌ ولا صديقَ منافقٌ، فلتكُنْ إذن أمنيةً وحسب، وفي ثنايا هذه الحالة المتضادَّةِ تتجلَّى صورٌ خمس، وهي من أجمل ما كتب في الشعر العربي:

حبَبْتُكَ قلبي قبلَ حُبِّكَ مَنْ نأى

وقدْ كانَ غَدَّارًا فكنْ أنتِ وافيا

وأعلمُ أن البيـنَ يُشْكيْـكَ بعدَه

فلستَ فؤادي إن رأيــتُك شاكيا

فإنَّ دموعَ العينِ غُدْرٌ بربِّـها

إذا كُـنَّ إثْرَ الغادِريـنَ جوارِيا

نحنُ في الأبيات الثلاثة أمام مشهد درامي تتأنْسَنُ فيه الأشياء وتظهرُ بكلِّ عواطفها وفكرها: المتنبي، سيف الدولة، كافور الإخشيدي، القلب متحوِّلا إلى فؤاد، والخامسة: العين. يخلُصُ المتنبي نجيًّا مع قلبه، مخاطبا إياه بلا حرف نداء أو تنبيه موجِزا حروفَ الكلمات، حببتك بدل أحببتك، قلبي بدلا من أيها القلب أو يا قلبي، فقد أحب المتنبي قلبَهُ قبل أن يحب القلبُ ذلك النائي (سيف الدولة) وفي ذلك إشارة إلى أن المتنبي نفسُه لم ينأْ بل مَنْ بدأه هو سيف الدولة، لمْ يصرح باسمه، فلمَ هذا الحبُّ؟ وأنا من علمك إياه وربَّاك عليه. وقد كان وما يزال غدَّارًا ( مبالغة)، فكن وافيا لي وليس له، فأنت جزء مني ولي عليك الطاعة، ويستمر المتنبي في الخطاب وقلبه يستمع، فقد قرَّ في عقل المتنبي أن قلبَه في حالة وجع وشكوى لتعلقه بسيف الدولة، وهنا في لحظة التأزم ينزاح القلب من كونه حاضنًا لعاطفة الحب إلى فؤاد محمَّلٍ بالحزن والشكوى والاحتراق، ألم يصف القرآن أم موسى عليه السلام في حالة الحزن بأن فؤادها وليس قلبها أصبح فارغا، بعد فراق ابنها فأعاده الله إليها كي تقرَّ عينُها ولا تحزن، أقول في لحظة التوتر تلك توعد المتنبي فؤاده المتشح حزنا بفراق سيف الدولة ؛ لأنه لم ينفذ الطلب أو قلِ الأمر. لقد تحول القلبُ من كائن مستقل في عاطفته بل غير مطيع لصاحبه إلى كائن شاكٍ كثير التوجع لتعلقه بسيف الدولة، هنا جدلية الحب والكره تتنافران وتتصارعان في دائرة القلب ليتحول هذا إلى إنسان يدرك ما يفعل، وما ذلك إلا تعبيرا عن وجد باطني لا طاقة للمتنبي بتحمله، فظهر جليا على الرغم من أن القصيدة أنشِدَتْ في حضرة كافور ومَلَئِهِ، ومن الفضول القولُ: إن حب سيف الدولة والتعالق به هو كراهية مؤكدةٌ لكافور، والدليل المحسوس على ذلك أن عينيّ المتنبي قد تحولتا إلى عيون تتفجر دموعا، فقد تأنْسَنَتْ كما القلب وفاءً لسيف الدولة وغدْرًا بربها (المتنبي) الذي هو أولى بهما وفاء وعملا. وفي ظل تلك المجادلة الكلامية من المتنبي والفعل المخالف من قلبه وعينيه ينتفض مقررا استسلاما عاطفيا كاملا، فيخاطب قلبه الرافض:

أقِلَّ اشْتياقًا أيها القلبُ ربَّما

رأيتُك تُصْفِي الوُدَّ مَنْ ليس صافيا

تلك خماسيةُ الحب بين شخوص مؤنسنة أصلا: المتنبي، وسيف الدولة وكافور وهذان المتناقضان أصلا وصورةً وفعلا يتنازعانِ قلبَ المتنبي وعينيه، والقلبُ والعينان أعضاء جسدية تعبر عن حالات كما يريدها صاحبها فقد شُخِّصتْ وأنْسِنَتْ فهي شديدَةَ الوفاء ظاهريًّا لمن لا يستحقه، وقد خرجتْ من المحاججة معبرةً عن حالة المتنبي الشعورية والفكرية والسياسية، واللافت أن المتنبي قد صدح بها أمامَ كافور وما كان في ذلك إلا شاعرا لم يوجهْه العقلُ وحسب، بل اللاشعور المخزَن في الذاكرة واستقلالية أعضاء جسده المسؤولة عما يحسه المتنبي من عواطف يخفيها، لكنَّ القلب والعينين غدر تفضح صاحبها، إنه المتنبي سيدُ الكلماتِ وربُّ القوافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى