القدس: مركز الضمير العربي والعالمي
بقلم: د.شفيق ناظم الغبرا
ما لا يعيه قطاع كبير من العالم أن قضية فلسطين لا حل لها خارج إطار العدالة والمساواة والحقوق الوطنية والقومية للشعب العربي الفلسطيني. ما لا ينتبه اليه من تعرفوا على قضية فلسطين منذ أيام أو شهور من خلال تطبيع بعض الدول العربية أن هذه القضية احتلت العقل والوجدان العربي منذ بدايات القرن العشرين، وأن الصراع المكثف على الأرض والحقوق في مواجهة الإستعمار والصهيونية بدأ بزخم في زمن الدولة العثمانية، ثم تطور الصراع وتكثف منذ الحكم البريطاني لفلسطين عام 1917.
يتساءل البعض لماذا تأخذ القدس كل هذه الأهمية؟ ما لا يجب نسيانه أن قضية فلسطين والقدس تحتوي على روح أمة العرب التي ظلمت على مدى عقود طويلة بسبب الاستهداف الممنهج من قبل الصهيونية من جهة ومن قبل القوى المهيمنة والإستعمارية من جهة أخرى. إن القدس واحتلالها والسعي لأخذ منازل أهلها ما هو إلا استمرار لمهمة الصهيونية الأساسية في إحلال مستوطنين مكان شعب. أن ترضخ القدس يساوي أن يرضخ العرب لارادة الإستلاب والسيطرة المطلقة على بلادهم.
فنجاح الصهيونية في فلسطين مقدمة لنجاحها في مناطق عربية ضعيفة أخرى. كما أن التصدي للصهيونية في فلسطين هو الطريق الذي يقي العمق العربي من مصائر مظلمة وظالمة قادمة وهو الطريق الذي يحرر العرب من واقعهم الصعب والمفكك. في القدس مقياس التحرر أو الرضوخ لأمة، ولهذا يتفاعل ويتأكسد هذا الصراع عند كل منعطف.
لأسباب كثيرة أصبح الصراع حول القدس وفلسطين مقياسا للكرامة الإنسانية كما والعربية، فمن غير العرب يتم إستلاب مقدساتهم وسرقة اراضيهم بهذا العنف وبهذه السطوة؟. لهذا فمن يقاوم في القدس يدافع عن كل حقوق العرب، كما ويدافع عن المستقبل ويدافع عن أراض أخرى في عمق البلدان العربية قد تجد الصهيونية كما والقوى المهيمنة يوما ما مبررات لإقتطاعها او لإخضاعها بالحيلة كما وبالقوة والعنف.
إن المواجهة في القدس هي الأخرى مواجهة مع قوى عالمية نراها في البلاد العربية كسوريا والعراق وغيرها ممن تسعى لابقاء عوالم العرب المختلفة ضعيفة ومقسمة وتحت سلطة الديكتاتور. إن التفريط في القدس وفلسطين والحقوق والعدالة هو تفريط بما هو أعمق من المكان والأرض لأنه يمس ما تبقى للعرب والمسلمين من قيم وقيمة.
وللقدس مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي والعربي، إذ فيها أولى القبلتين وثالث الحرمين، وفيها تاريخ مديد في كل الأزمان الإسلامية كما والمسيحية. قيمة القدس انها جزء ايضا من قضية يقف وراءها شعب صمد بأرضه وفرض عليه اللجوء في عام 1948 واستطاع أن ينهض المرة تلو الاخرى بحثا عن هويته ومكانه وحقوقه. القصة الفلسطينية ليست قصة عابرة لتذهب أدراج الرياح، فقد سببت حروبا عربية إسرائيلية عدة وسببت ثورات ونضالات وحركات سياسية، وارتبطت بمصير العرب راهنا ومستقبلا. هذا الترابط كان ولايزال كامن في الحالة العربية الفلسطينية.
مشاهد اليوم في القدس تخاطب مشاهد الامس، الانتفاضة الأولى عام 1987، الانتفاضة الثانية عام 2000، ثم المواجهات الدائمة واليومية في القدس وبقية فلسطين في كل المراحل. في القدس نفسها بدأت انتفاضة النبي موسى عام 1920 وذلك احتجاجا على الاستيلاء على الأراضي والهجرة اليهودية ووعد بلفور وفرض انكلترا للغة العبرية على فلسطين كما وفرض وعد بلفور في قوانين الانتداب البريطاني. في القدس إياها وقعت انتفاضة البراق عام 1929 والتي حركت كل فلسطين. والقدس كانت كما وكل فلسطين مركز رئيسي لثورة فلسطين الكبرى عام 1936-1939، وكانت بنفس الوقت المكان الذي آوى عبد القادر الحسيني وجيش الجهاد المقدس ومعركة القسطل عام 1948.
لوهلة تبدو القدس مركز العالم، فإن تحركت حركت معها فلسطين والعالم. حراكات أهل القدس وثورتهم وتصديهم البطولي والمظاهرات وحملات التضامن الواضحة في أهم عواصم الغرب وأيضا الشرق دليل على قدسية القدس ودليل على أهمية العدالة في كل أنحاء العالم في ظل نظام عالمي يميل للتوحش وللعنصرية. إن العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال هي عاصمة مغتصبة وأراض منهوبة ومناطق مسلوبة يسعى لحمايتها شعبها الذي لم يتوقف يوما عن الدفاع عنها.
استاذ العلوم السياسية/ الكويت