السلام ليس أكلة سريعة
بقلم: د. آمال موسى
النشرة الدولية –
يضعنا ما يحصل في القدس منذ أيام أمام مجموعة من الخيبات العميقة تقودنا بدورها إلى إعادة النّظر في فكرة السلام ومآلاتها؛ ذلك أن هذه الحرب المشتعلة والأرواح التي سقطت والبيوت التي هُدمت والعدوان القاسي من الطرف الإسرائيلي على الفلسطينيين، يجعلنا نطرح بكل بساطة وأسف السؤال التالي: هل إن إسرائيل فعلاً جادة في السلام؟ وهل تعي جيداً رمزية وتضحيات الدول العربية التي قامت بالتطبيع معها مخيّرة طريق العقل والقبول بإمكانات التعايش المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟
الظاهر أن السلوك الإسرائيلي هو آخر طرف يعتقد في فكرة السلام. كما أنه استناداً إلى الأفعال والسلوك يبدو أنه لا يريده ولا يمثل له هدفاً حقيقياً وجاداً. فلا شيء يؤكد أن إسرائيل تبحث فعلاً عن السلام. ولا شيء يعبّر عن فهم إسرائيل معنى السلام كما يفهمه الجميع وكما عرّفته المعاجم في مختلف اللغات والثقافات.
نعم، هناك تعريف خاص وغير معلن بالنسبة لمفهوم السلام تتبناه إسرائيل. وإذ نشير إلى هذه النقطة المفاهيمية؛ فلأن التصور والاستعداد والخطط والأفعال هي انعكاس لكيفية تمثل السلام وفهمه؛ ذلك أن السلام وفق المفهوم الإسرائيلي هو الخضوع والاستسلام والقبول وبأن يكون الطرف الآخر أخرس جامداً وفي مرتبة أقل من كل ما يمت لإسرائيل بصلة.
في هذا السياق أستحضر ما كان يسميه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات سلام الشّجعان؛ لأن السلام الحقيقي يحتاج فعلاً إلى شجاعة وتنازلات وضبط نفس واستعراض صدق النوايا والأفعال.
وليس تحاملاً على إسرائيل إذا قلنا إنها لا تمتلك إرادة السلام ولا الشجاعة التي يستلزمها، وأنها تتعامل مع السلام كشعار سياسي تحمي بها تجاوزاتها.. والحال أن قضية الصراع العربي – الإسرائيلي هي قضية وجود شعب وتاريخ مبلل بالدماء والدموع وقضية جراح مفتوحة وآفاق مسدودة من فرط دخان القصف الذي لا يهدأ إلا كي يعاود من جديد.
في مقابل ذلك، فإن الجانبين الفلسطيني والعربي قدّما كل مظاهر الشجاعة والتعقل والمرونة رغم الصعوبات والانتقادات. إذ تم القبول بالقفز على استحقاقات سنة 1948 والمرور إلى استحقاقات 1967 ومنها إلى اتفاق أوسلو. كان الفلسطينيون والعرب يخسرون وهم ينتقلون بين هذه التواريخ الصعبة. قام البعض منا بمناصرة «فتح» على «حماس» ووجهوا النقد اللاذع، وتم الزج بسياساتها في خانة الإرهاب؛ وذلك لأنهم رأوا في التصعيد المستمر لـ«حماس» تعطيلاً للسلام وللمفاوضات الخاصة به.
وأخيراً وليس آخراً، وتحت ضغط الشعور بضرورة إيجاد حل لمشكلة الصراع العربي – الإسرائيلي استجمعت دول عربية عدّة شجاعتها وقامت بالتطبيع. ولكن مع ذلك وعلى الرغم منه، فإن إسرائيل تضرب عرض الحائط بكل هذه الخطوات التاريخية الجبارة ولا تنظر إليها وهي تقصف وتقتل وتهين الفلسطينيين.
نعتقد أن سلوك إسرائيل الراهن إزاء الفلسطينيين استناداً إلى حوادث القدس ظل هو نفسه ولم يتعامل مع الغنائم التي حصدها من منطلق كونها مكاسب يجب أن تحافظ عليها.
والمشكلة الأكبر أنّها لا تُؤسس لمستقبل يقوم على التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فالتعايش لا يُفرض بالقوة والقصف ومساندة الدول الكبرى… بل بالأمان الحقيقي.
ما يزعج في كل هذا هو العقل الإسرائيلي ذاته. عقل لم يفهم بعد أن القوة أضعف سلاح مع شعب تعيش معه وبجواره وتتقاسم معه نفس الهواء والطقس ورائحة التراب ذاتها.
لم تفهم إسرائيل بعد أنّها هي المعنية أكثر من غيرها بالسلام. الفلسطينيون خاسرون جملة وتفصيلاً وكل ربحهم هو تأمين المستقبل لأولادهم. أما إسرائيل فكل ما في حوزتها ربحته وأخذته عنوة وهي رابحة جملة وتفصيلاً، ولم يربح كيان في التاريخ مثل ما ربحته. كيان ربح وطناً نتاج وعد أوفى به بلفور.
فهل المسألة عويصة على الفهم؟
لا أظن. ليس أمام إسرائيل غير حليّن اثنين؛ إما إبادة كاملة للشعب الفلسطيني أو السلام الجاد والشجاع الذي لا يقوم على القهر والاستضعاف؛ وذلك لأن القهر نتائجه قصيرة المدى وقد تكون جيدة، ولكن على المدى الطويل ينتج قنابل بشرية موقوتة ليس لديها ما تخسره. لذلك؛ فمن يحارب طرفاً لا شيء لديه يخسره سيكون هو الخاسر في النّهاية.
كل ما نحتاج إليه بقوة في الحياة مثل الأمان والاستقرار يشترط العطاء والتنازل والمشاركة. وكل من يكتفي بالأخذ، وخاصة بالقوة من دون العطاء، فإنه سيفرط في ما أخذه سواء تدريجياً أو دفعة واحدة.
صحيح أن الفلسطينيين الذين آمنوا بالسلام، وكذلك النخب العربية التي تحملت ما تحملته بسبب قبولها به مع إسرائيل، هم الآن في لحظة إحباط حقيقية عاد فيها كل شيء إلى الصفر… ولكن يجب ألا ننسى أن السلام ليس أكلة سريعة، وأن كل ما حصل من سلوك عربي وفلسطيني إيجابي إنما هو جوهر فكرة سلام الشجعان.