المطلوب فلسطينياً بعد جولة الحرب الراهنة
بقلم: عدلي صادق/كاتب فلسطيني

تتسارع أحداث المواجهات مع الاحتلال حتى الساعة. ولا يزال الفلسطينيون قاطبة، أحوج من أيّ وقت، إلى الاعتصام بعروة روابطهم الوثقى. فمنذ أن بدأ المقدسيون فعالياتهم، للدفاع عن النفس، واستعر العدوان على حي الشيخ جراح، بمنطقٍ يستعيد أسلوب الفصل العنصري؛ كان واضحاً أن الفلسطينيين ليست لهم مرجعية سياسية وطنية شاملة، تحدد خيارات الرد على التحديات وأساليبه، وتجسدها قيادة تستحق حرفاً من لقبها. فما يراه الموطن، أمام ناظره، ليس إلا كائناً يتلبّسه مخلوق واحد، ذو وجه متكرر، يسمي سلطة ومرجعية ورئيس، بينما هو لا يُراجع في شيء، ولا يسأله أحد عن شيء، ولا يستجيب إن سُئل أو وجّهت له نصيحة. وكلما ضاقت عليه العبارة، اختار الرأي الثاني.

معنى ذلك، أن رحلة العودة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية الراشدة، لا تبدأ إلا بالتضامن الشعبي ـ وبخاصة في لحظات العدوان ـ ثم الذهاب سريعاً إلى مأسسة هذا التضامن، والمضي قدماً لتحويل مراسيم الكائن الافتراضي الذي يسمّى “قيادة” والذي يمنح ثم يمنع، إلى شيء من كوابيس الذكرى وفضلات الورق!

قبل الحديث عن العدوان الدموي، الذي بدأه المستوطنون، ثم استكمله جيش العدو بالقتل العشوائي الرقمي الذي يُردي الأطفال والنساء؛ كان الفلسطينيون ـ ولا يزالون بالطبع ـ في حاجة إلى منهجية أخرى، تنتج مؤسساتها التمثيلية، لكي يتمكن الشعب الفلسطيني في شتاته ووطنه، من الانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة من نضاله الوطني، آخذاً بالاعتبار معطيات الواقع الإقليمي والدولي، وموازين القوة في النزاع. وبديهي أن تكون عملية الانتقال، في حاجة إلى عناصر وطنية من النُخبة التي تقدمت في الدراسات المعمقة، وأنتجت أفكاراً، ومعها لفيف من الأسرى المحررين وقدامى المناضلين، الذين تُركوا في محطة انتظار الموت، دون أن يلتفت إليهم احد.

طريق العودة إلى الحركة الوطنية، يحتاج أيضاً إلى البوصلة التي يُستهدى بها، لأخذ ناصية التأكيد على البقاء، لأن محض بقاء الفلسطينيين على الأرض، هو الجواب التاريخي على التحدي الجوهري. ولا مناص بالطبع، من أن تكون ذات إحداثيات صحيحة، لا تُغفل الأيديولوجيا ولا تغرق فيها حتى العجز عن رؤية كل معطيات الواقع. إن الشعب القادر على خلق المبادرات الشجاعة في القدس والجليل والنقب، وفي مدن الضفة وغزة؛ يستطيع إسقاط كل رميم وفاسد ومتبطل يتطفل على قرارهم الوطني الصائب والمسؤول.

لا وقت للمهاترات، فهي ليست للفلسطينيين بديلاً، وإنما محض ممارسة مضادة للعزم على طي مرحلة العجز بكل تعبيراته، وفي مُقدمها الانقسام. إن الدماء الزكية التي تُسفك في كل مكان من وطنهم، لا ينبغي أن تُكافأ باستمرار الرضوخ لعناصر الإحباط، وترك مهمة القرار والتنظير والتحايل، لمن سُمعت آراؤهم السخيفة ومشاربهم العفنة وخياراتهم الضالة.

في مساء يوم الخميس السادس من هذا الشهر، كان الوضع في القدس، ينذر بتفاقم المواجهات، ويتجاوز موضوع سكان حي الشيخ جراح، المستهدفين بالإخلاء والإحلال. فاليوم التالي سيكون “جمعة رمضان اليتيمة” وهي مناسبة يحتشد فيها المصلون في كل سنة، بأعداد كبيرة. وكان المستوطنون المتطرفون، يستعدون لاقتحام باحات المسجد الأقصى، ولم يكتفوا بعدة أسابيع من إيذاء الأسر الفلسطينية في الشيخ جراح، وإطلاق صغارهم لكي يمارسوا التعدي بالإهانات والإيماءات، على السيدات والمارة في الحي، بمساعدة الشرطة الإسرائيلية. كان أولئك المهووسون مطمئنين إلى مساندة الشرطة لهم، ومتأكدين أن هذه الشرطة ستساندهم في اقتحام الأقصى، وأنها ستشترك معهم في التنكيل بالمصلين.

في الحقيقة، إن مثل هذه النوايا بحد ذاتها، تعكس الوجه الحقيقي لإسرائيل الدولة، وتفتح الباب واسعاً للتوقعات عن مستقبلها. وربما يقول علماء الاجتماع الإسرائيليون أنفسهم، إن هذه الشرائح الأصولية المتخلفة من الظلاميين وسلالاتهم، والتي أغرت قطاعاً كبيراً من الإسرائيليين، هي التي يمكن أن تفتح بطن إسرائيل وتتسبب في انهيارها، إن لم تشكل خطراً على وجودها.

عندما جرت محاولة الاقتحام يوم الجمعة، ازداد المشهد خطورة وتعقيداً، وارتفع منسوب العاطفة عندما هتف متظاهرو القدس يطلبون من حماس أن تقصف. عندئذٍ أصبحت الفصائل الإسلامية في غزة، محشورة في الزاوية، بخاصة وأن الطرف الذي أشعل المواجهات، هو نقيضها موضوعياً، باعتباره طرفاً دينياً أصوليا، تسانده سلطة إسرائيل. وحماس تنظيم ذو أيديولوجية دينية ولديه سلطة في غزة. ولأن حماس تطرح نفسها بديلاً لسلطة عباس ولأيّ سلطة غيرها يدعمها الشعب؛ فلم تجد مفراً من خوض الغمار، على النحو الذي يظهرها في دور النصير والمنقذ الوحيد. وبالطبع تعرف حماس أنها في موضوع الصواريخ، أمام خيارين واتجاهين من ردود الأفعال: فعندما تقصف ستكون بين الامتداح والشجب. بمعنى أنها سواء أطلقت الصواريخ أو خبأتها، ستتلقى رد الفعل الذي يزجرها. ففي خيار الاستنكاف، ستكون عند قسم من الفلسطينيين، شبيهة عباس خنوعاً، وفي خيار القصف، ستكون أمام قسم آخر، جلابة موت وتدمير دون جدوى.

في خضم هذا المأزق، وجدت حركتا حماس والجهاد نفسيهما أمام خيار صعب، لكون كل منهما دأبت على تعريف وظيفتها بكونها جهادية ابتداءً واستمراراً. ثم سُمعت نداءات شباب القدس، خلال تظاهراتهم، وهي تطالب غزة بالتصعيد رداً على ذرى تصعيد ضدهم في القدس، وقد زادت الأمر مرارة وغضباً، مشاهد الاعتداء بالضرب على  السيدات اللاتي كُن ينزفن دماً من وجوههن. عندئذٍ، أعلنت حماس عن موعد بدء القصف، بطريقة على غير مألوف بدء المعارك، عندما يتحاشى البادئ الإخلال بعنصر المفاجأة. وكان ذلك يحمل بالتلميح والتصريح، معنى الاستعداد للتراجع إن تراجع المحتلون في القدس.

لا تزال مشكلة الفلسطينيين هي فقدان المرجعية الوطنية الشاملة،  مصدراً ومنهجاً، وهذا بلاء أنتجه عباس وحماس. لكنّ الفلسطينيين يحتاجون الآن، إلى الأخذ بمقتضى الإجماع السياسي، لمأسسة الوحدة الوجدانية التي تتجلى في لحظات العدوان. وهذا هو الطموح الاستثنائي بعد هذه الجولة، التي سبقت بمصادرة الإرادة الشعبية وإلغاء الانتخابات. فالذهاب إلى وضع آخر مختلف، هو ضمانة تحويل المحن إلى منحٍ، أعلى قيمة من أي شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى