هل من حكومة خفية تدير العالم؟
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية – إميل أمين –
مرة أخرى يتصاعد هذا التساؤل المثير: هل من حكومة خفية تدير شؤون العالم؟
ارتفع التساؤل في أعلى عليين مع جائحة كورونا التي ضربت عالمنا المعاصر، لا سيما في ظل ضبابية معلوماتية كثيفة، عن أصل ومنشأ الفيروس الشائه من جهة، وملامح اللايقين العولمي التي سيخلفها في عالم ما بعد كورونا من جهة أخرى.
ولعل ما حدث لاقتصادات العالم في فترة انتشار فيروس كورونا، قد أعطى فريقاً واسعاً من البشر دليلاً وبرهانا على أن هناك من يتلاعب بعالمنا المعاصر، ولا أدل على ذلك من ثروات قفزت إلى عنان السماء لشخوص بعينهم، هؤلاء تبدو مفاتيح العالم المالي عند أطراف أصابعهم.
وفي مواجهة التساؤل الحائر ينقسم العالم إلى قسمين:
الأول: يؤمن بأن هناك أيادي خفية تتلاعب بمقدرات البشر ومصائرهم من خلف ستار الأحداث اليومية الرسمية، وهؤلاء من الغموض إلى حد صعوبة اكتشافهم، أو سبر أغوارهم.
الثاني: يعتقد أن القصة برمتها ليست سوى أضغاث أحلام وأساطير الأولين، وقد نسجتها خيالات شعبوية منهزمة، ترجع كل انكسار تمر به إلى قوى خفية وغيبية، من عينة الجماعات السرية التي تحكم العالم.
أين الحقيقة؟ وأين الخيال في جواب التساؤل المتقدم؟
الإنسانية وطريق البحث عن المجهول
تذهب غالبية – إن لم تكن كل الموسوعات العالمية – إلى اعتبار الأسطورة حكاية يسودها الخيال، وتظهر فيها قوى الطبيعة على شكل آلهة أو كائنات خرافية، لكنها خارقة، وقد تكون سرداً لأحداث بشرية معروفة من قبل القائل، ومقبولة من قبل السامع، وتأخذ مكاناً في التاريخ البشري، تحتفظ بصفات معينة، وتعطي انطباعاً بالشيء المحتمل.
وفي علم الاجتماع ندرك كيف أن الكائن البشري عادة ما يسعى إلى معرفة كل ما هو غامض يثيره، ومبهم يجتذبه، ويبدو أنها الرغبة في المعرفة ومهما كانت مكلفة وصعبة الوصول.
غير أن هناك فارقاً واسعاً بين عالم الأسطورة التي تتحدث عن شخصيات هلامية، والواقع المعاصر، الذي يكاد يلمس فيه البعض أثر تلك الشخوص، وترى العين تجليات تلك المجموعات البشرية، والتي تقود مصائر وأقدار العالم، كالزعماء والرؤساء، والمفكرين وأصحاب الجماعات السرية، وهو لا يعني إنكارهم أنهم غير موجودين، لكن ربما غير مرئيين للعوام والبسطاء.
سبيرودوفيتش… بداية طريق الغموض
يمكن القطع بأن أهم وأقدم كتاب وصل إلينا وبه طرف من أخبار حكومة العالم الخفية، هو كتاب الاسكتلندي “شيريب سبيريدوفيتش”، والذي اتصف بغيرة روحية دافقة هي نتاج التقاليد الإسكندنافية التي ورثها، والتعليم الخاص الذي لقن له والتدريب الذي نشأ عليه.
في مقدمة كتابه يستعين سبيرويدوفيتش بتصريحات شخوص لعبوا دوراً محورياً في تشكيل القرون الثلاثة الأخيرة في تاريخ الإنسانية، بدءاً من القرن السابع عشر تحديداً، وهنا لا يغيب عن أعين القارئ أنها العقود التي تمكن فيها العالم القديم وقلبه أوروبا في ذلك الوقت، من مراكمة رؤوس الأموال، والتحكم في مسارات العالم القديم، ومن غير أن نغفل أن اكتشاف الولايات المتحدة الأميركية قد جرى على أيدي أوروبيين جلهم ينتمي لتلك الجماعات السرية، وهناك تركوا بصمتهم، والتي سنتوقف معها لاحقاً.
أول الأسماء التي يتوقف معها الكتاب، اسم “بنجامين دزرائيلي”، رئيس وزراء بريطانيا (1804-1881)، وهو زعيم حزب المحافظين، وقد كتب ذات مرة من عام 1844 يقول: “يحكم العالم بأشخاص مختلفين اختلافاً شديداً عمن يتخيلهم الناس الذين لا يعلمون بواطن الأمور، وهذا يعني أنهم ليسوا الملوك أو وزراءهم، فمن هم أولئك الحكام؟ إنه سر ينبغي معرفته حتى نستطيع السيطرة عليهم ونفرض السلام”.
هل كان دزرائيلي صادقاً في قوله؟
نعم ولا، ذلك لأنه أشار بالفعل إلى وجود تلك الجماعة، والتي يرجح الجميع أن العاصمة البريطانية لندن كانت موقع وموضع نشوئها وارتقائها، ومن ناحية ثانية لم يكن صادقاً في إنكاره لأنه غالباً ما كان جزءاً من تلك الجماعة، وهناك قصص عميقة ومثيرة عن دوره في الداخل الأوروبي، وصولاً إلى الشرق الأوسط.
الرجل الثاني في قائمة المستشهد بهم لتأكيد وجود حكومة العالم الخفية، أوتو فون بسمارك، السياسي البروسي – الألماني، الذي شغل منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا بين عامي (1862- 1890)، ويعد مؤسس الإمبراطورية الألمانية، ويعرف بالمستشار الحديدي، وقد عبر أكثر من مرة عن إيمانه العميق بوجود قوى غير مرئية، ولكنه لم يشخصها، وسماها “ما لا يسبر غوره”، ما يعني أيضاً اعترافه بوجودها، ومن غير رؤية واضحة لتمييزها.
الشخص الثالث في القائمة هو الشاعر والسياسي الفرنسي الشهير، ألفونس دو لامارتين (1790-1869)، الذي قرر في عديد من كتاباته أن هناك يداً خفية تدير شؤون العالم.
أما العلامة الرابعة في طريق سبيريدوفيتش فتقودنا إلى الفيلسوف والسياسي الإيطالي الأشهر “جوزيبي ماتزيني” (1805-1872)، الذي أسهمت جهوده وحراكه السياسي في قيام الدولة الإيطالية.
يقول ماتزيني: “إننا نرغب في قهر كل خطر، بيد أن هنالك خطراً غير مرئي له وطأته علينا جميعا… من أين يأتي؟ وأين هو؟ لا أحد يعلم، أو على الأقل لا أحد يفصح عنه”. ويضيف: “إنها مجموعة سرية تخفي حتى علينا نحن العريقين في أعمال الجمعيات السرية”، وليس سراً أن ماتزيني كان ماسونيا بامتياز.
هل كان سبيريدوفيتش وحده من تناول شأن حكام العالم الأخفياء؟
ويليام غاي كار… التساؤل بشر أم أحجار؟
اسم آخر لمع في سماوات حكومة العالم الخفية، ويليام غاي كار، (1895-1959)، قائد البحرية الملكية الكندية، والذي أخرج للعالم الكتاب الثاني الأكثر إثارة، والمعروف باسم “أحجار على رقعة الشطرنج”.
تبدو الماورائيات عند كار ظلامية للغاية، ويخبرنا أنه بدأ في البحث عن السر الخفي الذي يمنع الجنس البشري من أن يعيش في سلام وينعم بالخيرات الرغيدة التي منحها الله لنا منذ وقت مبكر، كانت البداية في عام 1911، أي حين كان في السادسة عشرة من عمره، ولم يقدر له كشف السر المكنون، إلا في عام 1950، أي إن البحث أخذ من حياته أربعة عقود كاملة.
البداية عند كار من عام 1784 حين اكتشفت الحكومة البافارية براهين قاطعة على وجود مؤامرة كونية مستمرة منذ زمن بعيد، ويعاد بث الروح فيها كل فترة زمنية.
خطوط المؤامرة الخفية التي يتناولها كار تتمثل في وجود جماعة سرية تتلاعب البشر وكأنهم أحجار على رقعة الشطرنج، ولا تتم السيطرة على الكوكب وساكنيه، إلا من خلال تدمير جميع الحكومات، والقضاء على الأديان، أما كيف يتم الوصول إلى ذلك الهدف، فعن طريق تقسيم الشعوب إلى معسكرات متنابذة ومتناحرة إلى الأبد، وذلك بتفعيل إشكاليات لا تتوقف، وإنما تتوالد باطراد مستمر، تزخمها دوافع اقتصادية تارة، وسياسية تارة أخرى، وعنصرية واجتماعية دائماً، وغير ذلك.
يقتضي المخطط تسليح هذه المعسكرات بعد خلقها، ثم يجري تدبير حادث في كل فترة يكون من شأنه أن تنقض هذه المعسكرات (والتعبير هنا مجازي، وليس حصرياً، فنحن نقول معسكر الشرق ومعسكر الغرب، أو معسكر الأطلسي ومعسكر وارسو)، على بعضها البعض فتضعف نفسها، محطمة بذلك الحكومات الوطنية والمؤسسات الدينية.
وبحسب رواية كار، فإنه في عام 1776 نظم “آدم وايزهاوبت”، والذي بدأ حياته راهباً كاثوليكياً، ثم ارتد ليضحى أحد عباد الشيطان، جماعة ستعرف كثيراً جداً في عالم الجماعات السرية باسم جماعة النورانيين أو اللوميناتو (كلمة النورانيين تعبير شيطاني يعني حملة النور، وأطلق أول الأمر على لوسيفورس كبير الشياطين).
كان هدف الجماعة الوصول إلى حكومة عالمية واحدة تتكون من ذوي القدرات الفكرية الكبرى ممن يتم البرهان على تفوقهم العقلي، واستطاع بذلك أن يضم إليه ما يقرب الألفين من الاتباع من بينهم أبرز المتفوقين في ميادين الفنون والآداب والعلوم والاقتصاد والصناعة.
مهام اللوميناتو الخفية حول العالم
وضع وايزهاوبت ما يشبه التوجه الاستراتيجي لجماعته الوليدة، وهو عبارة عن بنود ينبغي عليهم القيام بها، ومن أهمها ما يلي:
ـ استعمال الرشوة بالمال والجنس للوصول إلى السيطرة على الأشخاص الذين يشغلون المراكز الحساسة على مختلف المستويات في جميع الحكومات الوطنية، وفي مختلف مجالات النشاط الإنساني.
كانت التوجيهات تقتضي أنه حينما يقع أحد هؤلاء الأشخاص من أصحاب النفوذ في شراك النورانيين أو إغراءاتهم أن يحاط بالمشاكل من كل جانب، ويستنزف بالعمل في سبيلهم عن طريق الابتزاز السياسي أو بالتهديد بالانهيار المالي، أو يتم جعله ضحية لفضيحة عامة كبرى، أو الإيذاء الجسدي، أو حتى بالموت هو ومن يحب.
ـ العمل على نشوء وارتقاء تيار “الأممية العالمية”، وذلك من خلال قيام أساتذة الجامعات والمعاهد العلمية بإظهار اهتمامهم بالطلاب المتفوقين عقلياً والمنتمين إلى أسر ذات شأن ليولدوا فيهم هذا الاتجاه العالمي، كما يجري تدريبهم فيما بعد تدريباً خاصاً على أصول المذهب العالمي.
ـ مهمة الشخصيات ذات النفوذ التي تسقط في شباك النورانيين والطلاب الذين تلقوا التدريب الخاص، هي أن يتم استخدامهم كعملاء بعد إحلالهم في المراكز الحساسة خلف الستار لدى جميع الحكومات بصفة خبراء أو اختصاصيين، بحيث يكون في إمكانهم تقديم النصح إلى كبار رجال الدولة وتدريبهم لاعتناق سياسات يكون من شأنها في المدى البعيد أن تخدم المخططات السرية لمنظمة العالم الواحد والتوصل إلى التدمير النهائي لجميع الحكومات والأديان.
ـ العمل على الوصول إلى السيطرة على الصحافة وكل أجهزة الإعلام الأخرى، ومن ثم تعرض الأخبار والمعلومات على بقية شعوب العالم بشكل يدخلهم إلى الاعتقاد أن تكوين حكومة أممية واحدة هو الطريق الوحيد لحل مشاكل العالم المختلفة.
هل يمكن للقارئ أن يجد جماعات عصرانية معروفة بدرجة أو بأخرى، وليس شرط أن تكون خفية بالمطلق في حاضرات أيامنا، تعد انعكاساً لتوجهات وايزهاوبت، وصدى لما جاء في مخطوط سبيرويدوفيتش، ومن غير حاجة إلى إغراق في سرية؟
بيلدربيرغ حكومة العالم الخفية العلنية؟
منذ عام 1954 يجتمع نحو مئة شخصية أو أزيد قليلاً من أكثر الشخصيات البارزة في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، بشكل سري للغاية، وتحت حماية مكثفة، لمدة ثلاثة أيام، في لقاء لا تتسرب أي من أخباره إلى الميديا العالمية.
أعضاء الجماعة باتوا يعرفون بجماعة بيلدربيرغ، وهم من الشخصيات النافذة ورجالات النخبة والصفوة من سياسيين ومفكرين، ورجال أعمال واقتصاديين، وصيارفة وعلماء.
يتناول الكاتب الفرنسي المثير للجدل، تيري ميسان، مهمة مجموعة بيلدربيرغ، فيصفها بأنها من إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي، وهدفها الرئيس هو التخطيط للتلاعب بالرأي العام حول العالم، ليؤمن بما تقدمه الجماعة من أفكار تخدم بطرق غير مباشرة أهداف ومدركات حلف الأطلسي.
ووفقاً للائحة التعريف بالمجموعة، فإن الاجتماعات تعقد وفقاً لقاعدة “تشاتام هاوس”، التي تنص على أنه يحق للمشاركين استخدام المعلومات الواردة خلال الاجتماع، لكن لا يجوز الكشف عن هوية أو انتماء المتحدثين، أو أي شخص آخر من المشاركين.
تحمل جماعة بليدربيرغ، ولا شك جذور لها علاقة ما – كما يرى البعض – بحركة حكومة العالم الخفية، ولهذا نجد الكاتب الصحافي أندرو ميللر، من مجلة “ذي ترمبيت”، يصرح بأنه نظراً للسرية التامة التي يحيط بها أعضاء الجماعة اجتماعاتهم، أضحى شائعاً أن بيلدربيرغ امتداد عصراني من مجموعات لطالما سمع بها البشر من نوعية الماسونيين والمتنوريين، وصولاً إلى عصابات أسستها الملكة البابلية سميراميس.
الذين يشاركون في أعمال لقاءات بلدربيرغ، وهو اسم أول فندق عقد فيه أول لقاء في هولندا عام 1954، يشاركون كأفراد وليس بصفاتهم الرسمية، بالتالي ليسوا ملزمين باتفاقيات.
وبإمكان المشاركين أن يستغرقوا وقتاً للاستماع إلى الأفكار ورؤيتها وتجميعها، ولا يوجد جدول أعمال مفصل، كما لا توجد قرارات مقترحة، ولا يتم التصويت على أي شيء، ولا يتم إصدار بيانات في نهاية كل مؤتمر… ألا يدعو ذلك للتساؤل المثير: ما الهدف إذن من الئتام شمل تلك الجماعة المثيرة؟ وهل الأمر هنا شبيه بقصة جبل الثلج، أي إن ما يطفو منه على السطح لا يقارن أبداً بجسمه الغاطس في مياه المحيطات؟
غالب الظن أن أدوات الجماعة الإعلامية، وبعض الأقلام التي تدور في فلكها، من نوعية الكاتب الصحافي “ديفيد آرونوفيتش”، تقوم بمحاولة التشويش على الهدف الرئيس من تلك اللقاءات، فقد كتب في مقال له عبر صحيفة “التايمز” البريطانية مقالاً مثيراً مضمونه: “إن الشكوك التي تدور حول لقاء بيلدبيرغ سخيفة، إنه فقط تجمع للأثرياء والأقوياء”.
لكن الحقيقة هي أنه حين يوضع المال مع النفوذ، حكماً تطفو على سطح الأحداث معادلة السيطرة، سواء كانت خفية أو علنية.
هل بيلدربيرغ هي ذراع حلف الأطلسي الأيديولوجي الساعي لترويج أفكاره ومن ثم تحقيق مصالحه؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك، لا سيما أن أصوات كثيرة تؤمن بأن “الناتو” ورجالاته يطمحون بأن يتحولوا إلى حكومة سرية عالمية تضمن استدامة الوضع الراهن الدولي وعلى بسط نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، وهو رأي لتيري ميسان، ومن الغريب، وعلى الرغم من الاتهامات الموجهة للرجل منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإنه نسق فكري يتسق ورؤية القرن الأميركي التي بلورها المحافظون الجدد في نهاية تسعينيات القرن الماضي، ويسعون إلى بسطها على العالم طوال القرن الحادي والعشرين، وهي باختصار غير مخل، تتلخص في إزاحة أي أقطاب دولية قائمة أو قادمة من طريق هيمنة أميركا على العالم…
هل لهذه الهيمنة علاقة بحكومة العالم الخفية؟
جون بيلغر… حكومة خفية أم علنية؟
هل الإنسانية على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين في حاجة إلى حكومة عالمية خفية، أم أن تلك الأيادي التي لعبت كثيراً في الظلام طوال قرون أضحت ظاهرة الآن للعيان؟
أحد أفضل من قدم جواباً على علامة الاستفهام المتقدمة، الكاتب والصحافي الأسترالي الأصل المقيم في لندن، جون بيلغر، في كتابه المثير والخطير “حكام العالم الجدد”.
في صفحات هذا المؤلف المهم، نكتشف أن العالم لم يعد في حاجة إلى حكومات خفية تدير شؤون البشرية، فقد بات اللعب، وكما يقال، على المكشوف، وما كان يقال همساً في المخادع، بات الآن ينادى به من فوق السطوح.
عند بيلغر أن الهيمنة والنفوذ وإمساك خيوط العالم ورسم خطوطه، لم تعد متمثلة في أنماط الإمبريالية التقليدية، تلك التي يرجح أنها استعانت طويلاً جداً بتلك الجماعات السرية، ومن أشهرها، الماسونية أو البناؤون الأحرار، والمتنورون، وجمعية الجمجمة والعظام، ومنظمة الصليب الزهري، وفرسان الهيكل، ومجموعة بيلدربيرغ، فقد باتت الأيادي ظاهرة عبر سيطرة تكنولوجية، تجر وراءها أخطبوطاً مالياً، تدعمه وسائط تواصل اجتماعي تشكل الوعي العام، ويقود الجميع شركات عابرة للقومية، ومتعددة الجنسيات، تحت ستار من العولمة.
ظهر الأخطبوط الخفي إذاً على السطح، حتى وإن بقي الهمس دائراً حول حقيقة المشهد.
بيلغر يعطينا بضعة أمثلة تؤكد أن العالم لم يعد في حاجة إلى من يحرك الدمى على المسرح في الظلام، فإندونيسيا على سبيل المثال نموذج لما يمكن أن تفعله القوى المعولمة الظاهرة غير الخفية، ويشرح في كتابه القيم، كيف تدخلت المؤسسات المالية والدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لصياغة برامج الإصلاح الاقتصادي بما يخدم مصالح الرأسمالية الغربية العالمية، وضمان التحويلات المالية المعكوسة من الجنوب إلى الشمال كما يبين التدخلات التي تمت عبر الشركات أو عبر المركزية الأميركية لتغيير نظام الحكم بما يضمن استمرارية الهيمنة.
يشدد بيلغر على أن حكام العالم الجدد لم يعودوا في حاجة إلى أدوات اللوميناتو في اختراق العالم، ويتخذ من قضية الصراع على الطاقة، والبحث عن مصادر جديدة لها، والتنافس الدائر على النفط مثالاً يدلل به، ذلك أنه بالنسبة إلى الغرب فإن وجود الاتحاد السوفياتي قد سد الطريق إلى احتياطيات النفط والغاز التي ثارت التكهنات باستمرار حول مقدارها وحجمها، فقد قيل ربما بقدر من التفاؤل أن أكبر البحار المغلقة ضخامة، أي بحر قزوين، يحتوي على ثلث المخزون العالمي من النفط والغاز، وأن أكبر الحقول اتساعاً توجد في كازاخستان وأذربيجان، بينما توجد حقول أصغر في تركمانستان وأوزبكستان.
هل كانت أيادي جماعات النفط التي تمثل بؤر ضغط عالمية، أحد الأطراف الظاهرة لا الخفية التي أغرقت الاتحاد السوفياتي في مستنقع الجلاسنوست والبيروسترويكا، جنباً إلى جنب مع دعاة الديمقراطية الوهمية والليبرالية المنحولة؟
لم يكن الأمر في حاجة إلى حكومة خفية، ولو كانت موجودة، ليدرك العالم وبعد ثلاثة عقود ما الذي جرى في الاتحاد السوفياتي، وربما يقود المشهد إلى تعميق البحث عما حدث لأسرة رومانوف وصعود البلاشفة.
فريدمان ويد أميركا الخفية في العالم
هل هناك نماذج أخرى في برية القرن الحادي والعشرين للحكومات الخفية التي تحكم قبضتها على دول العالم، وربما أبعد من البر إلى البحر اليوم، وعما قريب في الفضاء، حيث معارك البشرية المقبلة؟
يكتب منظر العولمة الأشهر توماس فريدمان وحارس السياسة الأميركية الخارجية في صحيفة “نيويورك تايمز”، قبل بضعة أعوام يقول: “إن اليد الخفية للسوق لن يكون في إمكانها العمل إطلاقاً من دون قبضة خفية فـ”ماكدونالدز” لا يمكنها أن تحقق الازدهار من دون وجود “ماكدونيل دوغلاس” مصمم المقاتلة “أف-15”.
والقبضة الخفية التي تبقي على العالم مكاناً آمناً لوادي سيليكون التكنولوجي اسمها الجيش الأميركي، والقوة الجوية والأسطول ومشاة البحرية والقوة الأميركية الحقيقية، غالباً توصف بأنها اقتصادية، تلك القوة المتاحة لدولة تسيطر على أكثر من ثلث مصادر الثروة في العالم، وتوجد بها شركات عملاقة مثل “مايكروسوفت”، و”موتورولا”، و”فورد”، و”كوكاكولا”، تزيد في قوتها على الحكومات، وهذه رؤية مألوفة، وليست سائدة في الحركة المناهضة للعولمة دون غيرها، ذلك أن الحكومات قد تقلص دورها ليقتصر على القيام بدور الخادم المطيع لدوائر الأعمال الكبرى، وقد كان هذا ما كتبته، الأستاذة الجامعية والإعلامية البريطانية “نورينا هيرتز”، التي يصفها فريدمان بـ”المالية المنشقة” في لندن، وعندها أنه حتى حكومة الولايات المتحدة قد فرطت في سلطة الدولة، ودللت على صدق كلامها بما اعتبرته “الخضوع المخجل من جانب جورج بوش للشركات النفطية الكبرى”. والثابت يقيناً أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد جاءت لتؤكد فكرة توماس فريدمان عن اليد الخفية، والتي تعمل اليوم تحت غطاء العولمة، ربما بأكثر من أي وقت مضى، فالحروب الاقتصادية الأميركية يساندها في الوقت الحالي ذلك التهديد الدائم بالهجوم العسكري على أية دولة دون الحاجة إلى غطاء قانوني. ولقد جاء التأكيد الواضح على ذلك من جانب قيادة الفضاء الأميركي في وثيقة عامة مثيرة للاهتمام بعنوان “رؤية لعام 2020″، وفيها أنه “من الناحية التاريخية تطورت القوات المسلحة لتوفير حماية للمصالح والاستثمارات، سواء عسكرية أو اقتصادية، فخلال فترة نشوء التجارة أنشأت الدول الأساطيل لحماية وتدعيم مصالحها التجارية، وخلال التوسع غرباً في اتجاه الولايات المتحدة القارية، كانت إقامة المراكز العسكرية وسلاح الفرسان لحماية القطارات والمستوطنات والخطوط الحديدية لجماعة الوايت أنجلو ساكسون بروتستانت”.
ولعل ظهور القوة الفضائية يقتدي أثر كلا النموذجين، وعلى الرغم من عدم احتمال مواجهة التحدي من قبل منافس كوني يكون نداً لها، فإن الولايات المتحدة ستظل مستمرة في مواجهة التحدي على المستوى العالمي، فهل واشنطن هي حكومة العالم الخفية؟
هل من خلاصة؟
سيظل الصراع الفكري قائماً بين من يرون حقيقة وجود حكومة عالمية خفية، ومن يرفضون الأمر ويعتبرونه ضرباً من ضروب الأسطورة.
تعلمنا الفلسفة أن الحقيقة وضع متوسط بين تطرفين، ولهذا فإن أصحاب نظرية التاريخ المتآمر، ومعهم أنصار نظرية الهيمنة العذراء، كلاهما يثير الغبار والدخان من حول الواقع الحالي.
وفي كل الأحوال فإن العلاقات الدولية ليست سوى صراعات وقوى ومصالح تمارس فعلها بالنار، وتندفع إلى سباق الحياة باقصى سرعة يسمح بها العقل والعلم، وهي تجرب فرض إرادتها بكل الوسائل علناً وسراً، إقناعاً وقسراً، حرباً مكشوفة وتربصاً في الظلام، ومن هنا فإن التاريخ يصعب – جزافاً – اعتباره مؤامرة مستمرة، لكنه في اللحظة نفسها يصعب – إطلاقاً – اعتباره فردوساً للأطهار، وأي موقف حدي يثير الغبار.