الشوارع لم تعد ميدانا للاحتجاج بوجود منصاتنا الرقمية
بقلم: كرم نعمة
النشرة الدولية –
ما أهمية قرارات الحكومات في منع التظاهر، بل ما أهمية الرقيب أصلا، ما مصير حارس البوابة، هل مازال حيا، هل يوجد نص ممنوع وآخر مسموح به، هل بإمكان الحكومات مصادرة الصحف ومنع نشر المقالات؟
في يوم ما كانت بعض الحكومات تمنع توزيع المجلات وتصادر الكتب. بل إن بعض الصحف تصادر لحظة خروجها من المطبعة.
كل هذا لا أهمية له اليوم!
ويبدو من المفيد إعادة إطلاق هذه الأسئلة واستعادتها من زمن مقيد ومخيف سياسيا، مع تصاعد التساؤلات عن تراجع التظاهرات في المدن العربية المعبرة عن رأي الشعوب الناقمة على القصف الإسرائيلي لمدينة غزة.
لا يمنع وجود كم هائل من التضليل والتزييف في الاحتجاج الرقمي من قبل النشطاء، لأن وسائل التواصل الاجتماعي لا تتحلى بالصبر والدقة
من قال إنهم لا يحتجون! إنهم جميعا يتظاهرون وبكثافة قل نظيرها، يكفي أن نختار أي هاشتاغ متعلق بموضوع فلسطين لنجد أن مئات الآلاف يدونون احتجاجهم تحته.
فالشوارع لم تعد ميدانا للتظاهر بوجود منصاتنا الرقمية المعبر عن آرائنا المكتوبة والناقل لصوتنا المسموع بغض النظر عن أهميته أو جديته أو تأثيره. هكذا انتقل الشارع العربي إلى الإنترنت، وهكذا أظهرت الحكومات عجزها عن إحياء الرقيب المقتول بمعاول فيسبوك وتويتر وإنستغرام وكلوب هاوس…
الكلام الذي يتحدث عن خفوت وتناثر الاحتجاجات يجد له إجابة جاهزة بأن الصراخ يتصاعد على مواقع التواصل من كل البلدان وبإمكانه أن يصل إلى أبعد مدينة في العالم. هذا لا يخفي أن الاحتجاج الرقمي يحمل جانبين وغالبا ما يحدث الاشتباك بينهما بالنص والصوت.
لو امتنعت أي محطة فضائية عن بث فيديو ما عن القصف الإسرائيلي لمباني غزة، هل يمكن لإدارتها أن تتوقع أنها حالت دون مشاهدة الناس لهذا الفيديو؟
لا أعتقد ذلك، فنحن نتحدث عن منصات شخصية يمتلكها الملايين تتسم بالعجالة في نشر كل ما يتاح لها بغض النظر إن كان صحيحا أو مزيفا.
تغيرت وسائل الإعلام وتغيرت البيئة معها وطريقة التعبير عن الرأي والاحتجاج وكان لذلك تأثير كبير على سلوكنا الطبيعي. فنحن نتظاهر ونعبر عن ازدرائنا للآخر ورفضنا للقرارات السياسية والحرب، على منصاتنا الشخصية ولا نحتاج الخروج إلى الشارع.
لقد صنع فيديو قصير الحدث في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، ولم تصنعه أي وسيلة إعلام كبرى.
فبدأت قصة الاحتجاج من ذلك الفيديو الذي طاف العالم خلال ساعات وأيقظ الحركات الاجتماعية والسياسية، وكسر فكرة المواطنة الهشة داخل المجتمع الإسرائيلي.
ذلك الفيديو كان لشابة فلسطينية تصرخ بلغة إنجليزية غاضبة في وجه رجل يهودي “أنت تسرق منزلي” فرد عليها “إذا لم أسرقه فسوف يسرقه شخص آخر”. هنا ابتدأت المأساة المتواصلة عن حياة منفصلة وغير متكافئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
الحكومات أظهرت عجزها عن إحياء الرقيب المقتول بمعاول فيسبوك وتويتر وإنستغرام وكلوب هاوس الحكومات أظهرت عجزها عن إحياء الرقيب المقتول بمعاول فيسبوك وتويتر وإنستغرام وكلوب هاوس
كان الاحتجاج الافتراضي أكثر كثافة وتأثيرا سياسيا من الاحتجاج الواقعي على أرض القدس الشرقية وبقية العواصم العربية.
السياسيون وضعوا خططهم الحربية تأسيسا على ذلك الفيديو الذي تناقله الفضاء الرقمي، فاندلع القتال. وفقدت عندها الحكومات سلطتها على الاحتجاج الرقمي، ولم يتطلب منها كما جرت العادة في عقود مضت أن تنشر قواتها في الشوارع.
ذلك الفيديو القصير حقق لحد الآن ما لم تحققه عقود من الاحتجاجات العربية ومقاطعة إسرائيل واندلاع العنف المنتظم.
كانت وسائل الإعلام وخصوصا الغربية منها، ترى مؤشر الأحداث وفق درجة حرارة ما كان يسمى “الشارع العربي”. هذه المرة، بعد أسبوعين من حملة القصف الإسرائيلية التي أودت بحياة المئات من الفلسطينيين أغلبهم من المدنيين، انتقلت درجة حرارة المؤشر من الشارع العربي إلى مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن فرغت الطرقات من الحشود البشرية المعتادة.
الإنترنت شارع عالمي يشكل الشارع العربي جزءا منه ويمتلك القدرة على أن يكون له تأثير أوسع مما كان سائدا في ميادين المدن العربية.
استبدلت في هذا الشارع الرقمي الأسلحة والعصي والصراخ والبصاق… بالهاشتاغات والصور والتعابير اللغوية والرموز والرسمات الاحتجاجية. أين بإمكان رجال الشرطة وما يسمى بقوات مكافحة الشغب التواجد لحظتها؟ ألم أشكك في مقدمة هذا المقال بوجود حياة أصلا للرقيب!
صحيفة نيويورك تايمز جمعت تعبيرات رقمية احتجاجية من على إنستغرام وتويتر وفيسبوك وتيك توك… وعدت النشطاء العرب على مواقع التواصل أكثر تأثيرا من السياسيين، عندما أوصلوا صورة عما يجري على الأرض لجمهور عالمي لم يعرف من قبل أين تقع غزة! إلى درجة أن حسابا أميركيا على إنستغرام مهتما بشؤون الموضة يحظى بمتابعة 2.7 مليون متابع أعاد ثلاثة منشورات متعاطفة مع الفلسطينيين.
يقف المحتجون الرقميون ضد حجب وجهة نظرهم من قبل وسائل إعلام مدفوعة بمصالحها أكثر من نقل الحقيقة، وأنهم في احتجاجهم الرقمي يرون أن استخدام مفردة “الصراع” من قبل وسائل الإعلام لا يعكس الحقيقة، لا يوجد أنداد في هذا القتال.
الكلام الذي يتحدث عن خفوت وتناثر الاحتجاجات يجد له إجابة جاهزة بأن الصراخ يتصاعد على مواقع التواصل من كل البلدان
ويعزو مايكل فيشباخ مؤلف كتاب “القوة السوداء وفلسطين” الاحتجاج الرقمي المتصاعد إلى وجود شعور غريزي بالتضامن.
وقال إن “الفارق الرئيسي بين الماضي والحاضر هو السرعة. بينما استغرقت الرسائل الإخبارية الموجهة ضد إسرائيل شهورا لتنتشر في الستينات، فإن عمليات إعادة النشر والتغريد اليوم تتراكم خلال أقل من دقيقة”.
لذلك ساعد هذا الاحتجاج الرقمي المتصاعد والمستمر على تغيير القصة، أو تصحيح معلومات فيها على الأقل، وكان مصدرا لكبرى وسائل الإعلام في العالم. الأمر الذي جعل وسائل إعلام محترفة تحذف معتذرة بعض ما نشرته وأنحت باللائمة في ذلك على مسألة تقنية.
كل ذلك لا يمنع وجود كم هائل من التضليل والتزييف في الاحتجاج الرقمي من قبل النشطاء، لأن وسائل التواصل الاجتماعي لا تتحلى بالصبر والدقة، ولا تمتلك الحساسية التي تفرضها المسؤولية العالية للصحافة.