ميليشيات السوشيال ميديا
بقلم: تاج الدين عبد الحق
النشرة الدولية –
تفرض وسائل التواصل الاجتماعي، تحديات أمام الدبلوماسية التقليدية التي وجدت نفسها مختطفة من قبل أشخاص نصّبوا أنفسهم أوصياء، ووكلاء للتعبير السياسي والإعلامي عن المؤسسة الرسمية، بالرغم من أن خطابهم في تلك الوسائل، يكون مختلفا في جوهره عن المقاصد الحقيقية لهذه المؤسسة، وغاياتها الأساسية.
وقد خلق ذلك حالة من الالتباس، حتى لا نقول الارتباك، الذي أضعف قدرة الدبلوماسية في شرح مواقفها الحقيقية، وجعلها تلهث وراء ما يطرحه النشطاء في تلك المواقع، تبريرا أو توضيحا أو حتى نفيا وتصحيحا.
والمشكلة أن معظم من تنطّح لمهمة التعبير عن المواقف السياسية في وسائل التواصل الاجتماعي، افتقد المهنية والموضوعية، ناهيك عن افتقارهم للمعلومات التي تدعم رأيهم ورؤيتهم، وتنأى بها عن الاعتبارات الشخصية، أو تجنّبها الاستعراض الذاتي، الذي غالبا ما يكون على حساب مصلحة عامة، أو تشويها وإساءة لثوابت أخلاقية وقيم أساسية.
ومع الاعتراف بصعوبة ضبط الانفلات الذي نشهده على شبكات التواصل، إلا أن ذلك لايمنع من القول إن الكثير مما يتداوله النشطاء يثير غبارا كثيفا، يحجب ما كنا نحسبه بديهيات غير قابلة للنقاش، وحقائق غير قابلة للتشكيك.
قد يرى البعض، أن ما نشهده اليوم عبر السوشيال ميديا هو ضريبة عقود من الضغوط على الحريات العامة بما في ذلك حرية الرأي والتعبير، لكن هذه الحقيقة لا يمكن قبولها على علّاتها. فالحرب الدائرة اليوم، بين النشطاء، ومن يقف وراءهم أو يدعمهم، هي أقرب لحرب ميليشات إعلامية، لا يقل تأثيرها عن حروب الميليشيات المسلحة التي مزقت النسيج الوطني في كثير من الدول قبل أن تحولها إلى طوائف متناحرة هدف كل منها إلغاء الآخر، والنيل منه، بغض النظر عن الكلفة والثمن .
وكما في حروب الميليشيات المسلحة، فحروب الميليشيات الإعلامية الدائرة اليوم تهدد كيانات، وتهز ثوابت وتشكك بمواقف تضع الكل -بلا استثناء- في عين العاصفة، وفي مرمى النقد، وتحت معول الهدم. فلا أحد في مثل هذه الحروب محصن وليس هناك من هو في مأمن.
فكما في حالة الدول التي استقوت بقوى البلطجية والشبيحة، والتي سرعان ما أصبحت ضحية لمثل هذه القوى بعد أن استنسخ منافسوها صيغا شبيهة، هم أنفسهم أو من على شاكلتهم من يستسهلون اليوم استثمار ما توفره السوشيال ميديا من أسلحة لتصفية الحسابات، وسيجدون أنفسهم منخرطين في حروب من نوع جديد، قد تحوّل دولهم وساحاتهم إلى ميادين لحروب داخلية بين من يتقدمون الصفوف اليوم كحماة للحق والحقيقة وكمدافعين عنها.
لقد دفع عالمنا العربي ثمنا باهظا للحروب الإعلامية التي كانت تمزق خطابنا الإعلامي، وتفقده الكثير من فاعليته وتأثيرة بسبب التصنيف المسبق والتوصيف المجتزأ. ووجدنا أنفسنا بين رجعيّ وتقدمي، وقوميّ وديني، ويمينيّ ويساري، لنكتشف في النهاية أن ما يفرقنا خيط رفيع، لا نكاد نَبين منه الأبيض من الأسود فمَن كنا نظنه رجعيا متخلفا، هو من يتقدم -اليوم- الصفوف، ويدير الدفة، ومَن كنا نحسبه تقدميا يتراجع للخلف يلملم جراح الخيبة ويقف على أطلال الخسران.
وجدنا القومي المتعصب الذي كان يستسهل التخوين، يتحول في لحظة إلى ديني متطرف لا يتورع عن التكفير ولا يتردد في تصفيه الخصوم حتى لو كانوا من أبناء وطنه ومن شركائه في الوطن والدين والمذهب.
رأينا اليساري الذي كان مدافعا عن حقوق المظلومين والغلابى، يتحول إلى فاسد لا يتورع عن اقتناص كل فرصة تمكنه من السطو على حقوق الآخرين دون رادع من قانون أو وازع من ضمير.
نحن اليوم في مرحلة جديدة، تتجدد فيها أدوات خطابنا الإعلامي، ويتسع الأفق المتاح أمامه، لكنه لا يزال في محتواه غير موضوعي وغير قادر على التأثير والتغيير، إلا في الاتجاه المعاكس لمصالحنا وآمالنا.