لبنان يدفع ثمن معادلة السلطة للأقوياء في الطوائف
بقلم: رفيق خوري
النشرة الدولية –
مجلس الوزراء هو مركز السلطة في لبنان، حسب الدستور المعدل بعد اتفاق الطائف. ومن دون حكومة تتمتع بثقة المجلس النيابي وقادرة على عقد الجلسات لمجلس الوزراء تتعطل آلية اتخاذ القرارات المهمة والضرورية في كل مجال، السياسة، والإدارة، والاقتصاد، والقضاء. ولا يبدل في الأمر أن يبقى المجلس النيابي متمتعاً بسلطة إقرار القوانين الموصوفة بأنها “قوانين الضرورة” خلال وجود حكومة مستقيلة تملك صلاحية “تصريف الأعمال بالمعنى الضيق”. فالتعثر في تأليف الحكومات ليس أمراً غريباً في لبنان. لا أيام الجمهورية الأولى، مع أن السلطة كانت “مناطة برئيس الجمهورية”. ولا أيام الجمهورية الثانية، حيث صارت “السلطة مناطة بمجلس الوزراء مجتمعاً”. الغريب هو الوصول إلى الاستعصاء في تأليف الحكومة، لا مجرد التعثر. والجديد في بلد التسويات هو الفشل الصارخ والمتكرر لكل الوسطاء في ترتيب تسوية على صيغة حكومية بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري منذ تسعة أشهر وحتى الآن. الوسطاء في الداخل ومن بينهم البطريرك الماروني بشارة الراعي ورئيس المجلس النيابي نبيه بري وقادة في “حزب الله”، والوسطاء في الخارج وفي طليعتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومعه الدعم الأميركي والأوروبي والعربي، ومناشدات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، ودعوات صندوق النقد والبنك الدوليين. والمخيف أن الاستعصاء ليس فقط في أوضاع سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية مأزومة، بل أيضاً في مواجهة أزمة وجودية تهدد لبنان بالزوال.
ذلك أن الكل أدرك منذ الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت قبل عشرة أشهر 4 أغسطس (آب) 2020، واستقالة حكومة حسان دياب أن المحطة الإجبارية لبدء الإنقاذ هي تأليف حكومة اختصاصيين. “حكومة لمهمة” هي إجراء إصلاحات والتفاوض مع صندوق النقد الدولي على تقديم مساعدات وقروض ميسرة، ما يفتح الطريق أمام المساعدات العربية والدولية. لكن المسؤولين اللامسؤولين رفضوا الدخول من الباب الذي فتحه صندوق النقد، لأن الدخول يفرض التوقف عن الهدر والفساد والسرقة، ويحتم إجراء الإصلاحات التي تحد من امتيازاتهم. وها هو البنك الدولي يدق ناقوس الخطر على “لبنان غارق في انهيار اقتصادي قد يضعه ضمن أسوأ عشر، وربما ثلاث أزمات عالمية منذ القرن التاسع عشر”. لا بل يرى “سياسةً غير ملائمة عمداً” وراء “التقاعس المستمر في تنفيذ السياسات الإنقاذية في غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة”. وها نحن نواجه الانهيار في كل شيء، 55 في المئة من اللبنانيين عند خط الفقر، 27 في المئة منهم تحته، لا قدرة على مواصلة دعم الدواء والغذاء ولا على إعادة أموال المودعين في المصارف، ولا على إكمال النواقص في نصاب المجلس الدستوري ومجلس القضاء الأعلى.
لا أحد يجهل أن لأزمات لبنان المتراكمة أسباب متعددة. لكن التجربة المرة تعلّم الكل الآن أن الاستعصاء في تأليف الحكومة هو نتاج نظرية خطيرة كرّست معادلة خطرة، السلطة للأقوياء في طوائفهم. أمضينا أكثر من سنتين في شغور رئاسي قبل المجيء بالزعيم الماروني القوي العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وأكملنا ذلك بإعطاء رئاسة الحكومة للزعيم السني القوي سعد الحريري. وكانت رئاسة المجلس النيابي مطوَّبة للزعيم الشيعي القوي نبيه بري المتحالف مع “حزب الله”. خطورة المعادلة هي أنه حين يختلف الأقوياء الذين لا مجال لتغييرهم، يصعب إيجاد تسويات بينهم. وفي غياب التعددية داخل كل طائفة، فإن الديمقراطية التعددية الطائفية في لبنان تفقد معناها. فلا أحد “يمون” على المختلفين “الأقوياء”. ولا مفارقة أكبر من الكلام عن زعماء “أقوياء” في بلد ضعيف، يكاد يكتمل انهياره. وليس في تركيبة السلطة والنظام من يلعب دور “الضابط الكل”. الدستور جامد. الرئيس المكلف يستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية حاملاً ورقة التكليف من دون تأليف حكومة ولا اعتذار عن عدم التأليف. النواب الذي سموه لا يستطيعون العودة عن تسميته. رئيس الجمهورية يستطيع إبقاء البلد بلا حكومة إلى ما شاء الله. لا أحد يستقيل. ولا مجال لإقالة أحد. ولا فرصة لحل المجلس النيابي والعودة إلى الشعب، كما تفعل البلدان الديمقراطية وقت استعصاء الأزمات والتسويات، لأن الدستور يفرض للحل شروطاً شبه مستحيلة. وحتى ولو حدثت معجزة وتم تأليف حكومة، فإن الحرب تنتقل إلى مجلس الوزراء وتعطله عن اتخاذ القرارات.
و”ليست محظوظة البلدان التي تحتاج إلى أبطال” كما قال برتولد بريشت.