لبنان يدفع ثمن صراع عون والحريري و”حزب الله” يقبض
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

النهار العربي –

نشرت صحيفة فرنسية، قبل أيّام، تحقيقاً عن “النجاح الكبير” الذي تحققه “سوبرماركات حزب الله”، وتعرف غالبية اللبنانيين، منذ أشهر، أخبار “مصرف حزب الله” أو “مؤسسة القرض الحسن”، ولا يحتاج أحد إلى مراجع ليدرك أنّ “جيش حزب الله” لا يعاني مشاكل في الملبس والغذاء والرواتب.

يأتي ذلك، في وقت هندس “حزب الله” سياسات داخلية مكّنته من تهميش كل كلام عن سلاحه، ومن تسخيف كل الادلة الساطعة على دوره في ضرب عافية لبنان، ومن تحويل نفسه الى “ملاك حارس” للنظام الذي أمعن في تهشيمه، فظهر كأنّه “أبو ملحم” الجمهورية اللبنانية.

في المقابل، نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية، أمس مقالاً كتبه رئيس بعثة منظمة “اطباء بلا حدود” الى لبنان جوليان ريكمان، يسمح، من دون ان يكون ذلك هدفه، بفهم ابعاد ما أعلنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن بدء العمل التقني على وضع نظام تمويلي مرتبط بقيود دولية من اجل ضمان استمرارية العمليات الاساسية الداعمة للشعب اللبناني.

يعدّد ريكمان، في المقال، معطيات الكارثة اللبنانية التي تتجه نحو الأسوأ، ويشير الى ان اللبنانيين يقصدون بعثته ليس طلباً للدواء فحسب بل للحصول على المواد الغذائية أيضا، وان هؤلاء، بدأوا يزاحمون اللاجئين السوريين والفلسطينيين في استجداء خدمات البعثة.

وفي اشارة الى ربط المجتمع الدولي تقديم المساعدات الى لبنان بتشكيل حكومة إصلاحية، أكد ان الشعب اللبناني يجب الا يكون رهينة مفاوضات سياسية لا تنتهي، مطالباً باعتبار حقوق حصول اللبنانيين على الدواء والعناية الطبية والماء والغذاء مقدّسة.

وإذا ما جرى عطف هذا المقال-النداء على ما يكشفه “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، تباعا والأسرار التي وضعها قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون بعهدة ماكرون، في زيارته الاخيرة لباريس، وعلى ما يعرفه اللبنانيون عن معاناتهم اليومية امام محطات البنزين والصيدليات والسوبرماركت والمصارف والمستشفيات وقنصليات دول الهجرة، يكتمل مشهدان في البلاد، أولّهما يرسمه “حزب الله” وثانيهما “تخربشه” الدولة اللبنانية.

يعرف الجميع ان كثيراً من المشاهد التي يحرص “حزب الله” على إظهارها هي “دعائية” أكثر من كونها حقيقية، ولهم في استعراض القوة الطبية لمكافحة الكورونا الذي نظّمه حزب الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت، مع انتشار الموجة الاولى للجائحة التي أتت “خفيفة الوطأة” على لبنان، أكبر دليل على ذلك، اذ إنّ فاعلية هذه “الجهوزية” تلاشت ميدانياً، بمجرد أن ضربت الموجتان الثانية والثالثة لبنان، بقسوة.

ولكن هذا البعد الدعائي في المشهد الذي يرسمه “حزب الله” لنفسه لا يقلّل من حقيقة مشهد الدولة اللبناني المأساوي.

ولم يكن ممكناً أن تُحقّق استراتيجية “ذر الرماد في العيون” التي هندسها “حزب الله” في محاولة لتبرئة نفسه من المصير اللبناني الأسود، أيّ نجاح لولا اعتمادها على طرفين أساسيين في البلاد: رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري.

لقد حيّد عون والحريري، عندما اتفقا، موضوع “حزب الله”، بكل ما له من تداعيات داخلية وإقليمية ودولية، وهما، عندما اختلفا، على “طريقة تطبيق المبادرة الفرنسية” احتكما إلى “حزب الله”.

وقد أدّى تعاملهما مع اتفاقهما، بداية وخلافهما، لاحقاً إلى إسقاط آخر مقوّمات الدولة وقضى على آخر قدرات اللبنانيين على الصمود.

ولم يغيّر مشهد سقوط الدولة في مقابل مشهد صعود “حزب الله” شيئاً في مسارهما، منذ ثمانية أشهر على الأقل، فبدل أن ينكبا معاً على إنجاز “تسوية” جديدة تهدف الى وقف الإنهيار وتخفيف الخسائر وإبقاء شعلة الأمل بالغد مضاءة، ازداد عنادهما ورفعا منسوب طائفيتهما وعصفت بهما الطموحات، وحوّلا اهتمام المجتمع الدولي الى اشمئزاز منهما، بعدما اختصرا أعنف كارثة ضربت البلاد بمعركة صار جبران باسيل عنوانها، على ما يقول ويردّد أكثر من مصدر معني بلبنان.

وكان هذا العناد ليكون مفهوماً، لو أنّ عون والحريري، ليسا “بطلي العالم” بالتنازلات، فعون تنازل عن كل المبادئ التي صنعت منه شخصية سياسية بكلفة وطنية مرتفعة جداً، والحريري تميّز مساره بالتنازلات التي قدّمها، تباعاً، تحت عنوان “مصلحة البلد”.

وفيما يعاند واحدهما الآخر في تفاصيل تتصل بتشكيل الحكومة، على قاعدة أنّ “زمن أوّل تحوّل”، تجدهما معاً ملتزمين بتنازل جوهري ومكلف وخطر سبق أن قدّماه، تباعاً، وهو يتصل بطريقة تعاملهما “الإرضائية” مع “حزب الله”.

وهنا، بالتحديد يكمن النجاح الحقيقي الذي حقّقه “حزب الله” في لبنان، إذ أنجز وراثته الكاملة للوصاية السورية على لبنان، فتحوّل الى الحاكم والحكم آن، وحوّل شاغلي المواقع السلطوية إلى أدوات في مشروعه الذي يقوم على ضرب الميثاق الوطني، وتهديم النموذج الاقتصادي اللبناني، وسلخ لبنان عن محيطه العربي والدولي التاريخي، وتيئيس اللبنانيين من نظامهم حتى يصلوا الى قناعة بتغييره، في ظل سطوة السلاح الفئوي.

من المذل، في ظل هذه المشهدية الوطنية اللبنانية، أن يظهر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خائفاً على اللبنانيين أكثر من مسؤوليهم وزعمائهم.

قد يشكّك كثيرون بتوجّهات ماكرون. البعض على أساس “التاريخ الإنتدابي” لفرنسا، والبعض الآخر على أساس “ملاطفة حزب الله”، ولكنّ ما لا يمكن الإختلاف عليه، أنّه أكثر إفادة للكيان اللبناني من راهنيه لأجندة “الحرس الثوري الإيراني”، وأكثر حرصاً على شعب لبنان من هؤلاء الذين أنجزوا “صفقة مع الشيطان”.

حبّذا، لو أنّ الأطراف اللبنانية، سواء الخائفة من “الإنتداب” أو المتوجّسة من “الملاطفة”، تسحب السجّادة من تحت قدمي ماكرون، فتعمل معاً، بمنطق التسوية والمصلحة العليا وليس بمنطق الصفقة حيناً والعناد حيناً آخر، على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حتى يعيش اللبنانيون فقرهم بكرامة ويتطلعوا الى غدهم بثقة.

المسألة في لبنان لم تعد في “أيّ طرف ينتصر على الآخر”، بل أصبحت مسألة شكسبيرية تراجيدية تتصل بشعب بأكمله، بحيث “يكون أو لا يكون”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى