الفلسفة في «فخ» الجريمة والكوميديا السوداء… «الشرطي الثالث» للآيرلندي فلان أوبراين في ترجمة عربية
النشرة الدولية –
الشرق الأوسط – منى أبو النصر –
يُصدِّر الروائي الآيرلندي فلان أوبراين (1911-1966) روايته «الشرطي الثالث» بعبارة لويليام شكسبير تقول: «وحيث إن شؤون البشر غير مؤكدة على الدوام، دعنا نفكر في أسوأ ما قد يحدث»، في إشارة لأجواء الحذر والضبابية التي تحملها لنا منذ عتبتها الأولى، وتصل بالبطل لمجاهل المغامرة والجنون، من خلال رحلة بحثية طويلة لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق الغرائبي الجامح للأحداث.
وتشير كلمة الناشر لحالة «الغموض» التي اقترنت بهذا العمل، بداية من تأخر نشرها، مروراً بقراءتها النقدية التي جعلتها في مقارنة بالواقعية العجائبية لكافكا. فقد كتب أوبراين الرواية بين عامي 1939 و1940، إلا أنها نُشرت بعد وفاته في عام 1966. وأخيراً، صدرت الترجمة العربية لها عن دار «الرافدين»، بتوقيع المصرية إيناس التركي.
– جريمة واعتراف
وتستهل الرواية التي تقع في 304 صفحات أحداثها بصوت جريمة واعتراف: «لا يعرف الجميع كيف قَتلتُ العجوز فيليب ماذرز، بعد أن حطمت فكه بمجرفتي». هكذا، يصحبنا الراوي «البطل» مستخدماً ضمير المُتكلم على مدار السرد، دون أن يظهر له اسم على مدار الرواية، إلا أن المؤلف يعتني برسم عالمه منذ سنوات طفولته الأولى، فيستدعي والده المزارع، وأمه صاحبة إحدى الحانات؛ يسكن جميعهم تلك الحانة الكاسدة شحيحة الزبائن. يتذكر والده لِماماً، ويتذكر والدته بالشاي الذي قضت عمرها تصنعه وهي تغني أغاني قديمة لتزجية الوقت، ثم يتذكر رحيلهما عن الحياة معاً، واليتم الذي حل فجأة بصبي ينتقل لمدرسة داخلية، ليتأمل أهل المدينة الآيرلندية الصغيرة، ولا يتذكر منها سوى أنه تعرف فيها لأول مرة على فيلسوف يُدعى «دو سيلبي» من كتاب قديم مُهمل في مكتب أستاذ العلوم، فيسرق الكتاب، ويصبح هذا الفيلسوف بأفكاره الجنونية مُرشداً لحياة البطل وحكاياته «ارتكبت أول ذنب كبير من أجل دو سيلبي، ومن أجله ارتكبت أعظم ذنوبي».
لن يظهر الفيلسوف المُتخيل «دو سيلبي» في الرواية سوى عبر أفكاره التي تستلب عقل البطل، حتى أن غاية أحلامه تتلخص في أن يصبح غنياً، ليستطيع كتابة تعليقاته وآرائه الشخصية حول أعمال «دو سيلبي» وهوامشه، ونشر تلك التعليقات في مُجلدات لا مثيل لفخامتها. وتتقاطع على مدار أحداث الرواية أفكار هذا الفيلسوف حول الحياة والزمن والطبيعة والأبدية، حيث يرى أن الأرض ليست كروية، وإنما مستقيمة كحبة سجق، والليل ما هو سوى شكل من أشكال التلوث الجوي، والحياة كلها مجرد هلاوس. ويُمرر الكاتب تلك الأفكار في فضاء السرد، وفق تشبع البطل بها، وإسقاطها على حياته الخاصة.
ونتعرف في بداية السرد على شخصية «ديفني»، الصديق المُقرب للبطل الذي يستطيع إقناعه بسرقة جارهم العجوز «ماذرز» الذي يملك ثروة يمكن بها تسديد ديونهما، وإحياء الحانة التي ورثها البطل عن والديه. ولأن البطل قد تعرض لحادث أفقده ساقه، وصار يستعيض عنها بساق خشبية، فإنه كان يعتمد على «ديفني» وينقاد وراء أفكاره، وزُيّن له إمكانية أن تساعده تلك الثروة على نشر مجلدات حول أفكار «دو سيلبي» التي كان يخشى عليها من الاندثار. واتفقا على تنفيذ جريمة سرقة وقتل جارهم العجوز «ماذرز»، لتبدأ أحداث الرواية بعد تنفيذ تلك الجريمة في الظهور بوجه سوريالي، وآخر كابوسي، لا علاقة لهما بالسياق الهادئ الرتيب لحياة البطل في بيته الريفي الآيرلندي قبل أن يقترف الجريمة.
– روح ودود
يُحاول البطل أن يعرف من شريكه «ديفني» المكان الذي خبأ فيه صندوق المال والمُدخرات يوم ارتكابهما الجريمة الذي قتلوا العجوز من أجله، لكن «ديفني» يُصر على المراوغة بحجة هدوء أصداء الجريمة، حتى يُخبره بعد فترة طويلة بأنه خبأه في منزل العجوز، ويطلب منه أن يذهب بنفسه لإحضاره، وعندما يصل للمنزل يفشل البطل في أن يجد الصندوق، فتباغته الهلاوس «طرأ تغيير من نوع ما عليَّ أو على الغرفة؛ كان طفيفاً للغاية، ولكن خطيراً عصياً على التفسير في الوقت نفسه»، ثم ما يلبث أن يتخيَّل أمامه القتيل «ماذرز» حياً يحتسي الشاي، فتبتلعه الدهشة: هل هو شبحه أم أنه ما زال حياً وهما اللذان تخيلا أنهما قتلاه؟ ينتشله من فزعه صوت وكلمات تأتي من أعماقه هو، فيتجسد له لأول مرة في حياته صوت روحه «لم أصدق أو أعتقد من قبل أن لديَّ روحاً، ولكنني أدركت ساعتئذ أن لديَّ واحدة بالفعل. كما أدركت أن روحي ودود تكبرني في العمر، ولا يهمها سوى مصلحتي الشخصية. أطلقت عليها (جو) لتسهيل الأمر».
ويظل الحوار الفانتازي تبادلياً بين البطل وروحه «جو» التي كانت تُرشده، ويلجأ في أعقاب هذا الرعب إلى حيلة، فيتوجه لقسم شرطة في مفارقة عبثية، حيث يدعي أنه فقد ساعته الذهبية، ويطلب مساعدة الشرطة لإيجادها، مُتصوراً أن دخوله قسم الشرطة قد يجعله يسمع هناك عن أثر صندوق مُدخرات العجوز الذي فشل في العثور عليه «كانت هذه الكذبة هي السبب وراء كل الأشياء السيئة التي وقعت لي بعدها».
في قسم الشرطة، تتضاعف النبرة الكابوسية في الرواية، مُطعمة بلفحة من الكوميديا السوداء اللاذعة، حيث يلتقي شرطيين من بين رجال الشرطة الثلاثة المُنتدبين للعمل بالمكان، ويُلاحظ غرابة مظهرهما، وهوسهما بالدراجات، فلا تُسجل بهذا القسم بلاغات سوى لسرقات الدراجات، وهناك أيضاً يتحول السكان في دراما عبثية إلى دراجات، في فانتازيا ميتافيزيقية تستولى على عالم السرد، فتمتزج شخصيات رُكاب الدراجات بدراجاتهم نتيجة تبادل الذرات بينهم، وهناك تُصدر أحكام ضد العجلات بالإعدام، ونجد دراجات تُدفن، وتُبنى توابيت على شكل دراجات.
– ميتافيزيقا سردية
تلازم هذه العبثية البطل، وتشكل مصيره، حتى أنه ينسى اسمه، وسبب زيارته «المشؤومة» لهذا المكان، ثم ما يلبث أن يتذكر أمر الصندوق المفقود، فيأخذه أحد الشرطيين لطريق مُختصر للأبدية، بجوار نهر، يدخرون فيه أعمارهم فلا يشيخون، بفضل مادة تدعى «الأومينيوم»، تلك التي تُعادل طاقة كل الأشياء وجوهرها التي هي أغلى من كل مال. ووسط كل هذا الغموض والتباساته، يُصبح كل أمله هو الهروب من مستنقع الغرابة الذي سقط فيه، هو المهووس بالتفاصيل الميكانيكية وميتافيزيقية الأشياء ولغز الأبدية: «أحسست أنني وحيد تماماً، ولكن بقي لديَّ أمل بسيط في أن أنجح في الهرب بسلام في نهاية المطاف». ويكاد القارئ من فرط تداخلات فانتازيا السرد أن يميل إلى أن البطل قد دخل نفق أحد الأحلام الكابوسية بعد صدمة قتله الشنيع لجاره العجوز، واختفاء صندوق المال، ليعج السرد بأمواج متلاطمة من التأويلات، تزداد غرابة وتتحول إلى فجوة زمنية. فبعد هروبه من قسم الشرطة الكابوسي، على متن دراجة مُريحة تصل به إلى محيط بيته، يتبعه لقاء غامض بـ«الشرطي الثالث» غريب الأطوار الذي يدفع بالأحداث لسياق مُغاير يُعيد له الأمل في وجود «الصندوق»، ثم ما تلبث أن تُفجر عودته لبيته ولقاء صاحبه وشريكه في الجريمة «ديفني» غرابة الحكاية إلى أقصاها، بعد أن يُفاجأ بفزع صاحبه «ديفني» من أنه ما زال حياً، مؤكداً له أنه مات من ست عشرة سنة، فيُدرك البطل وقتها أنه قد سقط في جب زمني غير مرئي، بالاختفاء أو بالموت.
خلال هذه الخلطة من الكوابيس والعبثية والكوميديا السوداء التي يحياها البطل، ظلت أصداء فيلسوفه «دو سيلبي» تُصاحبه على مدار الرواية، فلم يُغادره حلم كتابة ونشر مطبوعات ضخمة عن أفكاره: «سأعيد دو سيلبي نفسه إلى الحياة كي يُبادلني الحديث ليلاً، ويسدي لي النصح فيما يتعلق بمهامي السامية. وفي كل ثلاثاء، سأجعل نفسي خفياً عن الأنظار».