روسيا وإيران يربكهما الانسحاب الأميركي من أفغانستان
بقلم: طوني فرنسيس

النشرة الدولية –

كان الانسحاب الأميركي من فيتنام عام 1975 من القرن الماضي مطلباً أميركياً شعبياً وشعاراً دولياً وهدفاً للمعسكر الاشتراكي ودول عدم الانحياز، بعد أن كان عنواناً ثابتاً للحزب الشيوعي الفيتنامي الذي وضع الاستقلال قبل الاشتراكية في برنامجه الوطني. ووقع الانسحاب تحت ضغط جبهة التحرير الفيتنامية، وعلق في ذهن العالم مشهد الفرار من سطح السفارة الأميركية والإذلال الذي لحق بالدبلوماسيين والعاملين المحليين معهم .

كان ذلك الحدث مدخلاً لوضع حد نهائي لسياسة الاستعمار والمستعمرات القديمة. انهار الاستعمار البرتغالي في أفريقيا وولدت دول مستقلة جديدة، وفي أنحاء الكرة الأرضية ازداد عدد الدول المنتمية إلى الأمم المتحدة لتجلس إلى جانب دول أخرى، كبرى وصغرى، تبحث معها شؤون العالم .

تغير العالم كثيراً بعد سايغون، انهار الاتحاد السوفياتي بعد 10 سنوات من التدخل في أفغانستان، وتصاعد المنطق الديني المذهبي مع انتصار الثورة الإيرانية وسيطرة الخميني وأنصاره عليها، وقاد التطرف إلى هجمات 11 سبتمبر (أيلول) التي ستعيد الجيوش الأميركية إلى القتال المباشر في أفغانستان والعراق، بعد تجارب محدودة في حرب تحرير الكويت والصومال ولبنان .

مر ربع قرن على إخلاء فيتنام قبل أن يتم التدخل في أفغانستان وبعده بسنتين في العراق. وبعد 20 سنة من القتال واستعصاء قيام حكومة مركزية قوية، قرر الأميركيون الانسحاب، وهم سيخلون تلك البلاد الجبلية الصعبة في ذكرى هجمات نيويورك، فيما يخضع تخفيف وجودهم في العراق والشرق الأوسط في السياق نفسه، لكن ضمن برمجة مختلفة .

السؤال الذي يؤرق العالم الآن هو لمن تُخلي واشنطن الساحة؟. في فيتنام أخلتها لحركة وطنية استقلالية ستعيد بعد عقود قليلة فتح علاقات طبيعية معها، أما في أفغانستان والعراق فالإخلاء كما يظهر سيكون لحركات دينية مذهبية متناقضة، ترفع في الأولى شعار إقامة “الإمارة الإسلامية” وفي الثانية، وتحت تأثير إيران، يرجح أن ترفع شعار “الجمهورية الإسلامية ” لو أتيحت لها الظروف لتشمل بقاعاً أخرى في سوريا ولبنان.

لا يمكن اعتبار “الإمارة” أو “الجمهورية” مشروعاً أميركياً كما تنحو بعض نظريات المؤامرات الرائجة، كما لا يمكن إنكار تداعيات الانسحاب، من أفغانستان تحديداً، على مجموعة الدول المحاذية، خصوصاً إيران، ثم روسيا المعنية بجمهوريات آسيا الوسطى خصوصاً طاجيكستان، وبعدهما الصين والهند، باعتبار أن باكستان تتمتع بعلاقة خاصة مع “طالبان” التي تتهيأ لإقامة إمارتها الأفغانية .؟

إذا كان الانسحاب من فيتنام، في حينه، مثار غبطة لمعظم الدول المذكورة، فإن الانسحاب من أفغانستان لن يكون أمراً مُفرحاً لها. غالبيتها انتقدت ما اعتبرته انسحاباً غير مدروس، إذ كانت تفضل بقاء الأميركيين في الوحل الأفغاني.

وجاء تقدم طالبان السريع وسيطرتها على المنافذ الحدودية مع إيران وتمددها في الشمال ومناطق عدة، ليطرح على الإيرانيين والروس مهمة التحرك بسرعة في محاولة لبناء علاقات مع الحركة الأفغانية، على الرغم من التناقض الجذري مبدئياً معها، والمخاوف في البلدين من تأثيرها في أمن كل من الطرفين .

لكن المقاربة الروسية تختلف عن نظيرتها الإيرانية. نظم الروس لقاءات أفغانية في موسكو، ورأى المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون أفغانستان زامير كابولوف أن “طالبان تغيرت مع تغير هذا العالم” ليحسم أنه “خلال أكثر من 20 عاماً شبع الجزء الرئيس من قيادة طالبان تماماً من الحرب، ويدرك أنه من الضروري البحث عن حلول سياسية داخلية للمأزق الحالي”. بينما تريد موسكو أن تصدق تطمينات طالبان بأنها “غير مهتمة” بدول الجوار، لكنها مع ذلك تعزز حضورها العسكري في طاجيكستان، وتستنفر دول منظمة شنغهاي، لضمان أمن دول آسيا الوسطى على حدودها الجنوبية .

تبدو روسيا راغبة بالابتعاد عن أفغانستان بعد تجربة الاتحاد السوفياتي فيها، لكن إيران المحكومة بعقيدة التوسع الإقليمي المذهبي، التي تنظر إلى “طالبان” بوصفها حركة دينية  نقيضة، تتصرف بازدواجية تجاه أفغانستان، فهي من جهة تزعم أنها حققت هدفاً برحيل الأميركيين، لكنها تخشى أن يكون هؤلاء قد تركوا لها لغماً لينفجر فيها .

وسارعت طهران لاستضافة وفدين من الحكومة الأفغانية وطالبان كما فعلت موسكو، وتحدثت بإيجابية عن سلوك الحركة الأفغانية، وقدمت سيلاً من النصائح التي يعرفها المشارقة عموماً عن الحوار والوحدة الوطنية، إلا أن النوايا الفعلية سرعان ما ظهرت لتثير غضب الحكومة الأفغانية.

كان عنوان صحيفة “جمهوري إسلامي” الاثنين الماضي، بمثابة إعلان حرب مذهبية في أفغانستان. فقد جاء فيه أن “الحشد الشيعي” ظهر في كابول “من أجل القتال إلى جانب القوات الحكومية”. ورد ناطق رسمي أفغاني على هذه الأقوال معلناً، “بهذا النوع من المؤامرة والإشاعات يجعل النظام الإيراني أبعاد الحرب أوسع وأكثر تعقيداً. إن تأجيج التهديدات الأمنية ضد الشعب الأفغاني سيشعل ناراً يصل لهيبها إلى إيران أيضاً”.

تعتمد طهران على تجنيدها الأفغان الشيعة من بين اللاجئين إليها، وهي نظمتهم منذ 2013 في إطار لواء “فاطميون” الموجود في سوريا، وفي رهاناتها أنها سترسل هؤلاء إلى بلادهم في مساوماتها اللاحقة مع الحكم المفترض قيامه في كابول .لن يكون الانسحاب الأميركي سهلاً على دول المنطقة، فالفراغ يبحث عمن يملأه، لكن القادرين قلة، والمخاطر المحيطة فيهم ليست سهلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى