الدّم اللبناني المسفوح بين “محكمة لاهاي” ومرفأ بيروت
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
تحلّ الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت، من دون أن تظهر العدالة قدرتها على فرض كلمتها.
وليس في الأفق، حتى تاريخه، ما يسمح بالاعتقاد أنّ هذا العجز “مؤقت”، خصوصاً أنّ تجربة اللبنانيين مع العدالة تؤكّد أنّ هدر الزمن يغتال الشهداء، مرة أخرى.
وتجربة اللبنانيين المرّة لا تقتصر على العدالة المنوطة بمحاكمهم الوطنية، بل إنّها تتعدّاها الى كلّ القضايا التي تهمّهم، ولو كانت منوطة بمحاكم ذات طابع دولي، كما هي الحال مع “المحكمة الخاصة بلبنان” التي “تقاتل” على كل الجبهات، علّها تتمكن من أن تُنهي الملفات التي في عهدتها، في ظلّ عدم اكتراث يكاد، لولا بعض المبادرات الخجول، أن يكون شاملاً، بعدما كان الاهتمام، في يوم من الأيّام، هو الذي يتمتّع بهذه الشمولية.
ومشاعر الظلم التي يناضل ضدّها ضحايا انفجار مرفأ بيروت، وسط اكتراث شعبي تدحرج، في غضون سنة واحدة، من “ممتاز” الى “جيّد”، يناضل ضدّها أيضاً ضحايا اغتيال المناضل جورج حاوي ومحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة الذين وجدوا أنّ دماءهم تواجه مخاطر رميها على قارعة الطريق، من دون أن يعني ذلك أنّ ضحايا اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد “شفوا غلّهم”، إذ إنّهم، بعد انتظار لسنوات كثيرة، وجدوا أنفسهم أمام حقائق كثيرة ولكن أمام نتائج ضئيلة، بفعل نجاح “حزب الله” ومن معه، في توفير ما يكفي من حصانة لعدد من المتهمين، بداية، ولسليم عيّاش المحكوم عليه، لاحقاً.
وما حصل في ملفات الحريري وحاوي وحمادة، على سبيل المثال لا الحصر، بفعل “هدر الزمن”، قد يحصل ما هو أدهى منه، بالنسبة لملف انفجار مرفأ بيروت، إن لم يتمكّن اللبنانيون من أن يضربوا بقوة على أيدي الطبقة السياسية التي تعبث بدمائهم.
إنّ ملفات الاغتيال، ولو أنّ السعي الى منعها من أن تتوّج بالقصاص العادل قد نجح بنسبة كبيرة، قد ربحت معرفة الحقيقة، بحيث لم يعد مجهولاً من يقف وراء ارتكابها، في حين أنّ الجهد المبذول في ملف انفجار المرفأ لا يهدف حصراً الى منع القصاص، بل الى الحيلولة دون الكشف عن الجهة الحقيقية المتورطة، أيضاً.
وفي هذا السياق، إنّ اقتراح “كتلة المستقبل” النيابية الذي يقضي برفع الحصانات الدستورية والإدارية والقضائية والنقابية في ملف انفجار مرفأ بيروت حصراً، كان، بغض النظر عن خلفياته الفعلية، ليكون ممتازاً، لو أنّه لا يهدر وقتاً ثميناً في انتظار إقرار مشكوك بحصوله.
وهذا الشك ليس تكهنيّاً، إذ تتكشّف، يوماً بعد يوم، حقائق تظهر أنّ هناك جهات خطرة للغاية، تقف وراء “الحماية” التي جرى توفيرها لكمية نيترات الأمونيوم التي انفجر القليل منها، في الرابع من آب (أغسطس) الماضي، فيما كان قد “سُرق” الكثير منها، منذ جرى تفريغها “المشبوه” في العنبر الرقم 12.
وهذه الجهات الخطرة ليست، على ما يبدو، بعيدة من تلك التي سبق أن وقفت وراء اغتيال الحريري وحاوي ومحاولة اغتيال مروان حمادة وآخرين.
ولكن هذا لا يعني أنّه لا يمكن الاستفادة من اقتراح “كتلة المستقبل” النيابية، إذا حسُنت النيات، ففيما يسلك الاقتراح دربه الطويلة والشائكة نحو الإقرار، يتم اتخاذ قرار برفع الحصانات النيابية والإدارية عن المدعى عليهم، ما يتيح للمحقق العدلي أن يستكمل أعماله، بطمأنينة.
وهذا ممكن، لأنّ القضاء لم يطلب من المجلس النيابي أن يفسّر الدستور، لجهة المرجعية المخوّلة محاكمة الرؤساء والوزراء، بل أن يرفع الحصانة النيابية عن نواب يشتبه في أنّهم قد اشتركوا أو تدخلوا في جريمة ضخمة، حين كانوا وزراء.
وهذا يعني أنّ مجلس النواب مطلوب منه حصراً أن يقول إذا كانت الملاحقة تستهدف منع النائب من ممارسة مهامه الرقابية والتشريعية، أو لا.
وما ينطبق على مجلس النواب ينطبق على الأذونات الإدارية، بخصوص كل من المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، فإعطاء الإذن بملاحقتهما لا يعني إقالتهما من وظيفتيهما، في مرحلة التحقيقات.
ويؤدي اقتراح “المستقبل”، في حال توافر هذا الشرط، غرضه، إذ إن التصديق على الاقتراح، في حال حصوله لاحقاً، يعفي القضاء اللبناني من هدر الوقت في الدفوع الشكلية.
والحديث عن هدر الوقت ليس عبثياً في المسائل الخاصة بالعدالة، ليس على قاعدة أن “العدالة المتأخرة ظلم محقق”، بل على قاعدة أنّ الزمن يطوي العدالة.
إنّ التدقيق في ما يحصل هذه الأيّام في “المحكمة الخاصة بلبنان” يعطي صورة واضحة عن هذه الحقيقة.
المحكمة لم تقفل أبوابها، أمس، كما كان يُخشى منه، ولكنّها لا تعرف كيف عليها أن تطوي ملفي حمادة وحاوي اللذين لم يتوافر التمويل اللازم للانطلاق بمحاكمة المتهم المعلوم فيهما: سليم عيّاش.
الأموال التي جرى توفيرها حتى تاريخه تسمح فقط بمتابعة الإجراءات الخاصة بملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بحيث تجتمع، في تشرين الأول المقبل، غرفة الاستئناف للنظر في طعن النيابة العامة بإعلان الغرفة الأولى في المحكمة براءة “رفاق عيّاش”.
وقد رفعت الغرفة الثانية في المحكمة، منتصف الشهر الماضي، طلباً الى مجلس الأمن الدولي، لمعرفة قراره بخصوص ملفي حمادة وحاوي، على اعتبار أنّه هو المرجعية التي أنشأت المحكمة.
ولا تريد الغرفة الثانية ترك ملفي حمادة وحاوي من دون حل، كما لا تستطيع، في ظل عدم توفير التمويل، الانطلاق بالمحاكمة.
وفي الطلب الذي رفعته الغرفة الى مجلس الأمن الدولي، يتضح أنّ القضاة يتوافقون مع جميع الفرقاء في الملفين على أنّ لبنان لا يستطيع ولا يمكنه ولا يملك الإرادة في أن يستلم الملفين وأن يجري محاكمة عادلة فيهما، وأن يوفّر ما يلزم من حماية للشهود وللأدلة.
وهذا يعني، عملياً، أنّ لبنان ساقط تحت قبضة الجهة المتَّهمة.
مجلس الأمن لم يقدّم جوابه، فيما مجلس إدارة المحكمة المؤلف من بعض “الدول المانحة” لا يريد أن تبقي المحكمة يدها على ملفي حاوي وحمادة.
والطامة الكبرى أنّ أحداً لا يهتم. حمادة يناضل في المحكمة نفسها. ذوو حاوي يعملون في المحكمة ولبنان وعدد من الدول، بينها فرنسا، لجذب الانتباه، ولكن يكاد صوتهم أن يكون “صارخاً في البريّة”.
ولكن هذا الخطر ليس قدراً، لأنّ التجربة أثبتت صحة المثل الشهير: ما ضاع حق وراءه مطالِب.
في الرابع من آب (أغسطس) 2020، لم يكن ضحايا انفجار مرفأ بيروت سوى نموذج من الوضع الاحتمالي لجميع اللبنانيين.
إنّ السعي الى العدالة ليس مجرد دفاع عن حقوق هؤلاء الضحايا. إنّه دفاع وقائي عن الذات، أيضاً.