في كواليس أجهزة “حزب الله” التطويعية: تجربة شخصية
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
حرص بعض المعارف، في الأّيام القليلة الماضية، على تزويدي بتفاصيل حملة يشنّها ضدي جيش “حزب الله” الاكتروني، على خلفية ربط الإهتمام الاعلامي الكبير بملف تفجير مرفأ بيروت، في الذكرى السنوية الاولى لجريمة الرابع من آب اغسطس ٢٠٢٠، بالمتابعة الاعلامية التي كنت أتولاها في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري وسائر شهداء “ثورة الأرز” في العام ٢٠٠٥.
ولم أجد ما هو ضار في هذه الحملة، فيكفي المرء، حتى ولو كان مستهدفاً، أن يعرف الجهة التي تقف وراءها، حتى يطمئن، ذلك أنّ أجهزة الدعاية التابعة ل”حزب الله” على اختلافها، لم تعد توفّر أحداً، فجميع الرافضين لتوجيهات قيادة هذا الحزب، مهما كان موقعهم وحرصهم وحجمهم، وفي مقدّمهم البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، هم أهداف .
دققتُ في الأسماء التي تتولّى هذه الحملة، فوجدت أنّ غالبيتها وهمية، وقلّتها الصحيحة، معروفة ببغائيتها المتأتية من “أمر عمليات”.
وقارنت بين المكتوب، فوجدته إمّا متطابقاً، أي أنّه صناعة الغرفة السوداء الشهيرة، وإمّا مصاغاً بشيء من التصرّف الذي لا يخرج عن “أمر العمليات”.
وحثّني بعض أصحاب الخبرة في وسائل التواصل الإجتماعي أن أرد بقسوة، بحيث أتجاوز هؤلاء “الصغار”، وأهاجم، بنابي الكلام وقاسي الإتّهام، سيّدهم الذي يعظمونه، بحيث تنقلب الحملة عليهم. بالنسبة لهؤلاء يمكنني أن أستفيد من هذه الهجمة، لأحقق “أهدافاً مهمة، بحيث أمنح نفسي مشروعية التعرّض، بهابط الكلام، لمن يريد هذا الجيش الالكتروني تقديمه إلى الرأي العام، بقالب مقدّس.
ولكنني امتنعت عن ذلك، ليس احتراماً لأحد، بل اقتناعاً منّي بأنّني أنتمي الى مجموعة مؤتمنة على “الدفاع”، بالوقائع والتحليل، عن صحة ما تراه أو تعتقده، ممّا يبعدني، تلقائياً، عن الإنحدار نحو “الشخصنة”، على اعتبار أنّ المرء لا يعطي أفضل ما لديه إلّا إذا قدّم نفسه مثالاً، على ما يقول الكاتب الكبير ستيفان زفايك.
طبعاً، أنا لستُ من هؤلاء الذين يرشحون زيتاً، ولكن ثمّة قواعد تفرض نفسها، ويجب، بقدر ما أمكن، احترامها، وفي مقدّمها عدم الرد على الشخصي بالشخصي.
والأهم في هذا الإطار أنّ شخصي، بالمحصلة، ليس هو المستهدف، بل النهج الذي سمحت لي الظروف الموضوعية أن أخطّه، يوماً: محاولة كسر العوائق التي تخفي الحقيقة.
إنّ هذه النوعية من العمل الاعلامي، لا تعني، بالضرورة، أنّها في ما تضيء عليه من زوايا غامضة، تكشف الحقيقة الناصعة، بل هي، بالمحصلة، تحول دون تمكين أيّ فئة متورطة بفعل جرمي كبير من تستير نفسها ومسؤولياتها، بالترهيب هنا وبالتضليل هناك.
وهذا يؤدّي الى “إجبار” الجهات التحقيقية المختصة على الإهتمام بكل زوايا الملف الجرمي، ويمنحها شجاعة عدم الخضوع لإرادة الطرف المستقوي عليها.
وفي هذا السياق، كيف كان للتحقيق العدلي في ملف تفجير مرفأ بيروت أن يصمد، في وجه الضغوط السياسية والأمنية والدعائية التي يتعرّض لها، لولا توافر الاعلام التحقيقي الذي تتولّاه نخبة شجاعة أعرف، بالتجربة الشخصية، كم هي مرتفعة الكلفة التي تتكبّدها على المستويات النفسية والعائلية والاجتماعية والمهنية والمالية؟
إنّ ما يقوم به الامين العام ل”حزب الله”، وهو القائد الأعلى للجيش الالكتروني الذي يتولّى، بسلوكية معيبة ومخزية ومحتقرة ومضلِّلة وكاذبة وتافهة، هذه الحملات، هو تدخل سافر في مجريات التحقيق في ملف تفجير مرفأ بيروت، اذ إنّه، بما يملك من “سمعة أمنية سيئة” ضغط على المحقق السابق فادي صوّان، وهو يضغط، حالياً، على المحقق طارق بيطار، حتى يأخذ تحقيقاته في الاتجاه الذي يناسب “حزب الله” وجميع من يحميهم مقابل ما سبق أن قدّموه له من خدمات على حساب المصلحة العليا للدولة.
ولولا توافر “الصحافة الاستقصائية” لكان ما يضطر نصرالله الى فضحه علناً، بكل ما يتعلّق بالتحقيقات، هو المعتمد، سرّاً، في الغرف القضائية المغلقة، ولكان المجتمع خضع، بشكل كامل، لما يقرّره، عنوة عن الجميع، “الأخ الكبير” الذي أبدع جورج أورويل، في توصيف مخاطره ، في روايته الخالدة: ” ١٩٨٤”.
في “دول القانون” ليس ثمّة حاجة الى هذا النوع من العمل الاعلامي المتتابع، لأنّ السلطات والمؤسسات تملك ما يكفي من حصانة وقوة لتتحرّك ضد كلّ الجهات التي تثير اهتمام التحقيق، وليس فيها أمثال “حزب الله”، بطبيعة الحال، فيما مجلس نوابها لا يجرؤ أن يتحرّك ليحمي أحداً، بل يجد نفسه مبادراً من أجل إزالة كلّ عائق يمكن أن يستغلّه أي كان، ليحمي نفسه فيه.
إنّ لبنان، بالتأكيد، ليس من هذه “المجموعة الدولية” وتالياً، لولا جرأة بعض الإعلام، لسادت إرادة “الأقوى”، وفق شريعة الغاب التي يسعى البعض، بلا كلل، الى فرضها على اللبنانيين.
على أيّ حال، ما يطمئن في هذه الحملة على الإعلام المهتم بتفجير مرفأ بيروت، أنّها تقيس “جرميته” على “جرمية” المتابعة التي توليتُها، قبل أكثر من ست عشرة سنة.
وهذه ليست إهانة لا لأعمال هؤلاء الزملاء الشجاعة، ولا لما كنتُ أقوم به، يوماً.
حينها، أصابت المعلومات في كثير من النقاط وأخطأت في القليل منها، ولكنّها بنيت كلّها على أعلى نسبة من الشفافية التي كان يمكن توفيرها، في ظل طغيان النظام الامني اللبناني-السوري على كل مقدّرات البلاد وعلى رقاب العباد.
وسمح هذا الدور الاعلامي بردم الهوة الزمنية التي كانت تفصل يوم وقوع “زلزال سان جورج” عن وصول لجنة التحقيق الدولية المستقلّة.
وخلافاً للحملة القديمة التي يستعيدها جيش “حزب الله” الالكتروني اليوم، لم نقدّم في تلك المتابعة الاعلامية التي سميت “تحقيقات” أيّ شاهد جرى وصفه بشاهد زور.
وسبق أن تحدّيت مروّجي هذه الكذبة أن يقدّموا دليلاً واحداً يربط عملي الاعلامي بهؤلاء الشهود، بحيث يعرضون، على سبيل المثال لا الحصر، فقرة واحدة تظهر هؤلاء وأنا أحاورهم.
كما سبق أن تحدّيت بعض هؤلاء أن يذهبوا الى القضاء اللبناني أو إلى أي مرجعية قضائية أخرى بما يزعمون امتلاكه من أدلة، ولكنّهم، لسخرية القدر لم يجدوا ملاذاً آمناً لهم الا قضاة النظام السوري.
إنّ جهات ثبت أنّها تعمل بجهد على خيوط تضليل التحقيق قبل أن تقدم على تنفيذ الجريمة (حالة أحمد أبو عدس في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، نموذجاً)، وفق ما أثبتته الغرفة الأولى في المحكمة الخاصة بلبنان، لن يعصى عليها ان تستهدف معنوياً كل من يمكن ان يأخذ التحقيقات في اتجاهات لا ترغب بها.
بالأمس كان دوري. اليوم دور غيري.
المسألة ليست شخصية، إذن. صحيح أنّ اشخاصنا هي المادة، ولكنّها ليست هي المهمة، لأنّنا، أحببنا ذلك أم كرهناه، حوّلَنا عملُنا الى رمزية تخدم السعي للوصول الى الحقيقة التي يعملون، بلا كلل ولا ملل، وبكل الوسائل المتاحة ولو كانت غير مباحة، على طمسها.