سايغون-كابول: أميركا تخسر وتندم
بقلم: رفيق خوري

النشرة الدولية –

مشهد سايغون يتكرر بشكل ما في كابول بعد نصف قرن: الهروب الأميركي الكبير أمام الانتصار الكبير للقوى والأيديولوجيات التي حاربتها واشنطن بمئات آلاف الجنود. في فيتنام نشرت أميركا نصف مليون جندي أيام الجنرال وستمورلند لمنع الفيتكونغ وفيتنام الشمالية من إسقاط النظام في فيتنام الجنوبية وبدء “دومينو شيوعي” في آسيا. لكن الثوار انتصروا وأُعيد توحيد فيتنام في ظل النظام الشيوعي، وسُميت سايغون هوشي منه على اسم القائد الذي قال إن العامل المهم في الحرب هو “الزمن والصبر”. وفي أفغانستان استخدمت واشنطن أيام الرئيس جورج بوش الابن بعد تفجيرات نيويورك الإرهابية أكثر من مئة ألف جندي وأحدث تكنولوجيا عسكرية لضرب تنظيم “القاعدة” وإسقاط نظام “طالبان”، وهو نظام إسلامي متشدد، تقف خلفه الاستخبارات العسكرية الباكستانية للحؤول دون أي نفوذ للهند في أفغانستان. لكن “طالبان” انتصرت وعادت إلى السلطة في كابول حاملة الأيديولوجيا القديمة نفسها.

في حرب فيتنام التي ورثها نائب الرئيس ليندون جونسون بعد اغتيال الرئيس جون كينيدي كان النصر مستحيلاً. وبحسب كتاب جوليا سويغ تحت عنوان: “ليدي بيرد جونسون: الاختباء في مشهد منبسط” تروي ليدي بيرد قول زوجها الرئيس “أنا في حرب لا أريد الذهاب إليها، ولا أستطيع الخروج منها”. أما وزير الدفاع المخضرم روبرت ماكنمارا، فإنه انتظر إلى ما بعد الخروج من السلطة وكتابة المذكرات ليعترف بأنه كان يعرف أن”النصر العسكري مستحيل”.

وفي حرب أفغانستان ومشاركة الحلف الأطلسي بقيادة أميركية، فإن الجنرالات كانوا يدركون عبثية الحرب التي قررها السياسيون. قائد القوات الأميركية الجنرال ستانلي ماكريستال قال: “النجاح يقاس، لا بعدد من نقتل من طالبان بل بعدد من نحميهم من السكان”. والجنرال البريطاني مارك كارلتون قال بصراحة للصحافية البريطانية كريستينا لامب عام 2008 “إن الحرب في أفغانستان لا يمكن ربحها عسكرياً” فوصفه وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس بأنه “انهزامي”.

وبحسب المؤرخ كارتر ملكاسيان الذي عمل مستشاراً لرئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزف دانفورد، فإن “الحرب الجيدة” صارت سيئة بسبب “الفساد والظلم وتدخل باكستان والمقاومة العميقة الجذور للاحتلال الخارجي”. ويعيد مالكاريان التذكير في كتابه الجديد “حرب أميركا في أفغانستان: تاريخ” بأن “أخطاء المرحلة الأولى قادت إلى الفشل بسبب الاطمئنان إلى “سهولة النجاح”. فإدارة بوش الابن قدمت 12 مليار دولار لباكستان بدل أن تعاقبها على دعم “طالبان”. وهي والإدارات اللاحقة لم تفهم لعبة “العداوات بين القبائل”، ولا أهم سلاح في يد “طالبان”: الرهان على “الأطراف” لأنها هي القلب في أفغانستان خلافاً لمعظم الدول التي قلبها المدن. فضلاً عن أن إيران وروسيا ساعدتا “طالبان” ضد أميركا. ويروي شاهد عيان في إحدى القرى عام 2005 أن الأهالي يتلقون العلاج والمساعدات من الجنود الأميركيين في النهار، ويقومون في الليل بقصف قاعدتهم بالصواريخ. ولدى سؤالهم: لماذا؟ كان الجواب: “هؤلاء سيذهبون في النهاية، أما السيئون فسوف يبقون هنا”.

وكما في فيتنام كذلك في أفغانستان: أميركا راهنت على اتفاقات مع الذين حاربتهم: فاوضت المسؤولين الفيتناميين الشماليين في باريس أيام الرئيس نيكسون والوزير كيسنجر والمسؤول في هانوي لي دوك تو. وفاوضت “طالبان” في قطر عبر السفير زلماي خليل زاد والملا برادور. وليس غريباً أن تصاب أميركا بـ “سيندروم أفغانستان” كما ضربها لعقود “سيندروم فيتنام”. فلا الانسحاب الذي قرره الرئيس دونالد ترمب وأكمله الرئيس جو بايدن جرى بـ “شكل مسؤول” مع ضمان ألا يصبح البلد مرة أخرى ملجأ للهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة”، كما نص عليه التوجيه الاستراتيجي المؤقت في مجال التأكيد بأن أميركا “يجب ألا تخوض ولن تشارك في حروب أبدية أودت بحياة الآلاف وأهدرت تريليونات الدولارات”. ولا ضمان للحفاظ على مكتسبات الأفغان التي صنعتها واشنطن ومنها وجود 3.5 مليون فتاة في المدارس وفتح أبواب العمل أمام النساء بعدما منعت “طالبان” ذلك. أما الضرر الذي تركته أميركا في أفغانستان، فإنه كبير ومرشح للازدياد. وأما صدقية أميركا عند حلفائها في الشرق الأقصى والشرق الأوسط، فإنها في أدنى مراحلها.

ومنذ البدء قالت حركة “طالبان” للأميركيين: “لديكم كل الساعات، ولدينا كل الوقت”.

المزيد عن: الولايات المتحدةأفغانستانحركة طالبانفيتنامسايغونكابولالانسحاب الأميركي من أفغانستان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى