طالبان مقابل أميركا: من يملك المستقبل؟
النشرة الدولية –
الحرة – د. نادية عويدات –
شاهد العالم بأفواه فاغرة خروج الولايات المتحدة من أفغانستان ووقوعها بأيدي طالبان والتي أعلنت بسرعة تأسيس إمارتها الإسلامية للمرة الثانية. في الوقت نفسه، يحاول الآلاف من الأفغان الهروب من براثن طالبان. وأكدت الولايات المتحدة على شاشات التلفاز الامريكية وفي خطاب الرئيس الأمريكي وأيضا في تصريحات المسؤولين في الإدارة الامريكية، والبنتاغون خصوصا، انها سوف تساعد الالاف من الأفغان الذين عملوا معها، كمترجمين مثلا، للهجرة لأراضيها، وحتى الساعة تم إخراج الفين أفغاني.
لا شك ان الولايات المتحدة ارتكبت أخطاء لا حصر لها في أفغانستان، ولكن الشيء المثير للاستغراب تسارع المحللين السياسيين في العالم العربي لكتابة شهادة وفاة أميركا والإعلان عن هزيمتها الكاملة والشاملة، مذكرين بما حدث في سبعينات القرن الماضي في فيتنام. إن الذين يرون تسلسل الأحداث على هذا النحو يعيشون في وهم وربما آمال وأحلام سقوط الدولة العظمى الوحيدة في العالم. قرار الولايات المتحدة بترك فيتنام او أفغانستان جاء لحسابات داخلية لا علاقة لها بالدولتين، بل جاء نتيجة أسباب داخلية بحتة ذات علاقة بالانتخابات الأمريكية ومتطلبات الشعب الأمريكي الذي نادرا ما تهمه الأحداث الدولية. وبالرغم من رمزية الخروج المخيب للآمال على جميع الأصعدة، إلا أن هذا لا يعني، كما يتمنى الكثيرون، انتهاء الحقبة الأمريكية.
فليتذكر الموقنون بفشل أميركا المزعوم، أمثال عبد الباري عطوان، بأن التاريخ يسطر أن أميركا ازدادت قوتها العسكرية بعد انسحابها من فيتنام في سبعينات القرن الماضي، بل وحققت نجاحات استراتيجية منها التغلب على الاتحاد السوفيتي. بالإضافة لكونها مضت لتتربع على عرش العالم من حيث التطور العلمي والتكنولوجي ومن حيث اختراعاتها للعالم (الإنترنت احدى هذه الاختراعات). اليوم، وبينما يواجه العالم وباء عالميا، لا منافس للولايات المتحدة في الطب ويُعد لقاحها الأكثر فاعلية، بعكس اللقاحات الصينية والروسية. أميركا بتعدديتها اللا مثيل لها وبسقف الحريات الذي يخاطر الآلاف بأرواحهم للتمتع بها لا تزال تتمتع بجميع مقومات النجاح ولا تزال الوجهة المفضلة للمهاجرين، بالرغم من عدم قدرتها على صنع أي تقدم في أفغانستان. فما دام هناك ديموقراطية تستطيع من خلالها أقلية مبدعة العطاء دون الخوف من دكتاتورية طالبانية او سوفيتية او شيوعية فسوف تستمر أميركا بالتقدم عالميا بالرغم من جميع أخطائها.
الذين يتلهفون لسقوط أقوى ديموقراطية في العالم، ربما أولى بهم التفكير في سبب فشل العالم الإسلامي عقد بعد عقد في إيجاد منظومة سياسية تضمن أبسط الحقوق والحريات لمواطنيها. فقد شهد العالم الإسلامي عموما والعربي تحديدا فشلا ذريعا ونزولا من هاوية الى هاوية أعمق من سابقاتها، وسنة تلو أخرى، فأين نحن اليوم مقارنة مع سبعينات القرن الماضي؟ هل تقدمنا كما فعلت أميركا؟ ولكن ترى كاتبا كعبدالباري عطوان يتغنى في مقالته بالجينات المشبعة “بالكرامة وعزة النفس والروح القتالية العالية” لشعوب مثل أفغانستان واليمن. وربما على عطوان أن يضيف لهذه اللائحة ايضا العراق وليبيا وسورية، حيث لا تزال “الروح القتالية العالية” التي يمدحها تساهم في انعدام أي استقرار او ازدهار. لم يفسر عطوان كيف تسمح الكرامة وعزة النفس أن تقوم أقلية غير منتخبة من فرض ايديولوجيتها وأهوائها مرارا وتكرار على الأغلبية في معظم الدول العربية والاسلامية. طبعا عطوان يشجع على هذه الروح القتالية من العاصمة البريطانية لندن بدل أن يساهم بنفسه في الهجرة للإمارة الجديدة التي يرى أنها ربما ستصبح قوة مدعومة عالميا من قبل الصين وروسيا وربما أميركا نفسها.
هذا النوع من التحليل يساهم في خلق مجتمعات متملصة تماما من مسؤوليتها في صنع الأحداث، وترى نفسها دوما ضحية مسلوبة الإرادة لقوى خارجية، ما عدى القتلة أمثال طالبان والدواعش الذين ترى فيهم روح المقاومة التي يحتفي بها مثقفون أمثال كاتبنا هذا. في الوقت نفسه، تقوم هكذا خطابات على تعبئة المجتمعات بكم هائل من الكراهية للآخر الذي تصوره بأنه متحكم في إرادتها تماما. بينما الأولى لنا ان نحاول استثمار أي طاقة لدينا نحو بناء الأوطان وإنتاج بنية فكرية قادرة فعلا على خلق مجتمعات وأنظمة تحمي كرامة مواطنيها وتمكنهم من المشاركة الفعلية والسلمية، في اختيار الأفضل من كفاءات مجتمعاتهم للقيادة ولحل المشاكل التي يواجهها العالم الإسلامي، لا بل العالم بأسره، كالاحتباس الحراري والبطالة وتوفير مستوى عيش كريم للجميع.
يتقدم العالم العربي جميع بقاع المعمورة في البطالة بينما تتربع دوله على موارد مالية واستراتيجية وتاريخية هائلة تكاد تكون مهدورة تماما او مستثمرة بخلق أيديولوجيات تغذي العنف والدمار حول العالم. فلا ننسى كيف قام عبدالله عزام أستاذ الشريعة وغيره بجمع الملايين لتأسيس مكتب الخدمات في أفغانستان وإحضار آلاف الشباب العرب لتأهيلهم للجهاد. ومن يدري فقد يتم تهجير موجة جديدة من الشباب العربي العاطل عن العمل إلى أفغانستان لتغذية الروح الجهادية والقتالية التي تغنى بها أمثال عطوان، ودائما نستطيع ان نلوم أميركا بدل ان نقوم بمراجعة افعالنا واتخاذ قرارات من شأنها فعلا ان تغير عالمنا للأفضل. وكما حققت أميركا إنجازات هائلة منذ انسحابها من فيتنام، فإنها على الاغلب ستستمر في تحقيق نجاحات، بعضها قد تفيد البشرية بأسرها، بينما يستمر بعض مثقفينا العرب الموالين للإستبداد في التشجيع على تغذية الروح القتالية من جهة ولوم أميركا من جهة اخرى.
سارعت طالبان بإصدار خطابات مطمئنة لعالم مفزوع منها، تقول إنها سوف تحترم حقوق الانسان وخصوصا حقوق المرأة. وطبعا لا شخص يتمتع بقواه العقلية يتوقع ان طالبان والتي اكدت انها ستقيم الشريعة الإسلامية، سوف تحترم أي حقوق على الاطلاق، سواء حقوق المرأة او حقوق الصحافة أو حقوق الانسان بشكل عام، فالمكتوب معروف من عنوانه. فطالبان ذات التاريخ الحافل بالجرائم استولت على الحكم ليس باختيار الشعب وصناديق الاقتراع، بل، وكما فعلت المرة الأولى، بالإرهاب والعنف وقتل كل من جاء في طريقها، حتى النساء العزل منهن. هكذا وصلت إلى كابول والعنف وحده من سيبقيها فيها فهي كجميع الحركات السلطوية، حتى التي وصلت منها للحكم عن طريق الصناديق، لا تستطيع البقاء في السلطة سوى عن طريق القمع والعنف، فهي وان فازت مرة او حتى مرات فإنها في النهاية ستعمل على تدمير أي منظومة تهدد تشبثها الابدي والإقصائي بالسلطة.
لكن ربما تكون هذه حقبة جديدة فعلا لطالبان. فبينما يتساءل العالم عما ينتظر أفغانستان تحت حكم طالبان، وبينما يعبر ملايين الناس حول العالم عن تعاطفهم مع الشعب الافغاني الذي عانى من حروب لعقود طويلة، ربما تجد طالبان ان أفغانستان اليوم ليس أفغانستان الثمانينات. فبالرغم من هجوم طالبان المتكرر خلال العشرين سنة الماضية على المدارس وقتلها لآلاف الطلاب العزل، هناك جيل كامل نشأ يتمتع بهواتف ذكية ومواقع تواصل اجتماعية، جيل يستطيع ان يفكر بنفسه ولنفسه. لن يقبل ان يأتي شخص غير منتخب ويتوقع منه الطاعة العمياء.
قد تستطيع طالبان ان تقتل وتنكل وتخيف، ولكنها لن تتمتع بمصداقية، سواء داخليا أو خارجيا. وفي الآن نفسه، على الشعب الافغاني وعلى جميع الشعوب المقهورة والمظلومة ان تعمل على تغيير حاضرها ومستقبلها بدل ان تضيع وقتها بلوم القوى التي فعلا خارج سيطرتها. فحتى لو فشلت أميركا، هل سيكون العالم أفضل؟ اشك في ذلك. لكن، هل سيكون العالم افضل مع طالبان؟ ربما يجب ان تسألوا فتيات أفغانستان.