براءة القارئ
بقلم: سوسن الأبطح
النشرة الدولية –
أكثر من نصف قرن، ودور النشر تلقي باللائمة على القارئ الذي لا يحب الكتاب، ولم يعتد اقتناءه. فهو الذي لا يشتري ولا يتثقف، وهو المسؤول عن أن دورة الإنتاج لا تكتمل بسبب تقاعسه وخموله. تلك تهمة سهلة بددتها الدراسة الممتازة التي وضعها الدكتور خالد عزب، بمبادرة من اتحاد الناشرين العرب، وقدم لها رئيس الاتحاد محمد رشاد، وتغطي الفترة من 2015 إلى 2019؛ في محاولة للخروج من المستنقع الذي وضعت فيه أزمة «كورونا» الناشرين والقراء معاً. فمع الانهيارات الاقتصادية بات إصدار كتاب يحتاج إلى جهاد وتوزيعه إلى كفاح، وبيعه إلى إغراء، وصار موت الكثير من دور النشر بحكم المؤكد. وهو ما استدعى اللجوء إلى جمع البيانات، والمعلومات، واستخلاص العبر، ربما للمرة الأولى بهذه الجدية في تاريخ النشر العربي.
لكن الكتاب بلغة الضاد لم يكن أصلاً بخير، لسببين أساسيين: أن قطاع النشر تسوده «الفوضى»، وتحكمه «الأنانية» التي تجرّ إلى منافسة ضيقة الأفق. وكما كل ما حولنا، فالناشرون، يعمل كل منهم، وكأنه يعيش في كوكبه الخاص، ويقرأ حاجة السوق، على ضوء توقعاته الفردية ورؤيته الشخصية. أمر لم يعد ناجعاً، وقد انقلبت الوسائل، وتغيرت الأدوات، كما تبدلت الأمزجة، وبقيت وزارات الثقافة نائية بنفسها عن وضع خطط تكاملية مع من يتشاركون معهم اللغة نفسها. وإن قرأت الدراسة بتمعن تتيقن، أن السفينة تسير والرب يرعاها، فالقبطان غائب والرعايا يتخبطون. الكتاب الواحد يطبع في أكثر من بلد عربي، قد يترجم الأجنبي مرات عدة، ويحقق التراثي تكراراً، من دون الالتفات إلى تنسيق أو تكامل. مع أن وضع منصة عربية أو تشكيل لجنة عليا، مجرد مسألة إرادة. كتبٌ كثيرة تصدر بلا رقم إيداع، وبالتالي من المحال إحصاؤها، تزيد الطين بلة، الكتب الإلكترونية التي هي خارج كل ترقيم أو قوننة فعلية. معلومات نعرفها، لكنها باتت مؤكدة علمياً، وتحتاج إلى معالجة. لا توجد إجابة ناجعة عن سبب غياب آلية توزيع عربية ناجحة بتسهيل من الحكومات، تؤمّن الكتاب المطبوع في كل الأقطار العربية، بسعر مقبول. هل نحتاج إلى مائة سنة أخرى لنقرأ في لبنان الكتاب الجزائري؟ ومن دون أن يحتاج الكاتب إلى ناشر لبناني وآخر مصري وغيره أردني. أم أننا سنبقى نحمل الكتب في حقائبنا من بلد إلى آخر، كلما احتاج إليه صديق؟ تلك البدائية تنسحب على الترويج الذي لا يرى في الكتاب سلعة جاذبة، يمكنها أن تسوّق في برامج تلفزيونية أو إعلانات ديناميكية.
جملة مفتاح تلفت في الدراسة، وهي أن «إجراء مسح عربي للمحتوى، سيكشف عن قصور شديد في اختراق التقليدية، إلا في حالات يسيرة». وهذا لب المشكلة. فمما لا يجرؤ كثيرون على الاعتراف به أن شراء كتاب عربي أصبح مغامرة، لارتفاع ثمنه، وضآلة احتمالية قراءته حتى آخره. فالكتب الشائقة والمفيدة تتناقص، بما فيها الروايات والدراسات. وسبق للدكتور عدنان الأمين أن أصدر كتاباً قيّماً له عنوان دال هو «إنتاج الفراغ» يقول فيه، إن الأكاديميين العرب يتزايدون فيما الإنتاج المعرفي يتراجع، والأبحاث في كثير منها تتحول إلى قص ولصق، أو منصات للدفاع عن فكرة مسبقة أو الهجوم على فئة معينة.
المحتوى ضحل على الورق كما على الشبكة الإلكترونية. ومن الغريب حقاً أنه حتى الكتاب المسموع حين يكون مسجلاً بشكل نوعي، ويلجأ إليه الشباب فغالباً ما يكون بالإنجليزية، وتلك نقمة أخرى؛ إذ إن الروايات المترجمة الطلب عليها يفوق المكتوبة أصلاً باللغة العربية، وهذا له دلالاته. تجويد المضمون العربي، من أعسر المهمات، بعد أن أخفقت دور النشر في التحول إلى مؤسسات قادرة على تنقية الأفضل، والبحث عن المواهب. فهي في غالبيتها من دون إدارة ناجعة تغربل المعروض، ومحررين يشذّبون النصوص، ويتدخلون بشكل حاسم، في حض الكاتب على تجويد نتاجه. فأكثر من نصف الدور تعمل بلا خطة واضحة، وتنتظر النصوص التي تعرض عليها. لهذا؛ لا ينتظر من الكتابة الإبداعية، وعلى رأسها الروايات التي يقال إن القارئ العربي يعشقها أن تأتي أفضل من غيرها.
يقترح الدكتور خالد عزب، على الناشرين، فتح المجال أمام الكتابة الإلكترونية التفاعلية؛ علها تنتج أفكاراً، وتوجهات جديدة. وهو ما لجأت إليه الصين، ونجحت نجاحاً باهراً في غربلة جيل من الكتّاب، تدخل القراء مباشرة، في تقويم مسار رواياتهم وبلورة عقدها، أو إلهامهم في رسم شخصياتهم، وأقدارها، ومصائرها.
الكتاب الورقي أصبح أقل جاذبية، في حين الإلكتروني لا ينطلق بالسرعة المطلوبة، بعد أن واجهته مشكلات تقنية عدة، وها هو يعاني أمام القرصنة. الداء قد يبقى بلا دواء، خاصة أن الكتاب الرقمي أصبح في ذهن القراء معادلاً للمقرصن الذي يجده على الشبكة بالمجان، ومن الصعب إقناعه بعكس ذلك.
دول تقدمت في عدد الكتب التي نشرتها أو ترجمتها مثل السعودية، والأردن، والصومال، والمغرب، والإمارات، لكن المعوقات متشابهة. المحك ليس في الأعداد. ففي لبنان أكثر من 600 دار نشر، لكن كم عدد الفاعلة منها، وحين تطبع دولة 10 آلاف كتاب، ما هو كمّ ما يصلح فعلاً للقراءة من بينها. تلك تقييمات صعبة. نظرة سريعة على آلاف الكتب المترجمة، تدرك مباشرة أن كثيراً منها لا يأتيك بعبارات واضحة، أو أسلوب يساعد على الفهم. فالتنافس على الأرقام من أسوأ ما يمكن أن يصيب المسؤولين عن النشر. وأجازف وأقول إنه قبل عشر سنوات كان يمكن للقارئ الحذق أن يتابع جلّ الإصدارات، وفي نفسه شهية ألا يفوّت واحداً منها، وصار يحار من أين تتدفق عليه العناوين، لكنه قليلاً ما يتمنى أن ينقطع يوماً عن العالم ليصغي لها وحدها، ولا شيء غيرها.