الحركات المذهبية كبديل لحركات التحرر
بقلم: طوني فرنسيس

النشرة الدولية –

ما زالت تداعيات الانسحاب الأميركي من أفغانستان قيد المراقبة والدرس. كثيرون شبهوه بالانسحاب من فيتنام قبل 46 عاماً، وآخرون ميزوا بين الانسحابين. في فيتنام قاتل الأميركيون نحو عشر سنوات بعد حرب مماثلة خاضوها في كوريا انتهت إلى تقسيم ذلك البلد، وفي فيتنام دافعوا عن نظام تابع لم يتمكن من الصمود، فأعاد الخصوم بقيادة الحزب الشيوعي الفيتنامي توحيد بلادهم تحت سلطتهم، لكن أفغانستان كانت مختلفة.

غزت أميركا تلك البلاد للقضاء على تنظيم “القاعدة” المسؤول عن هجمات نيويورك وواشنطن، وعلى سلطة “طالبان” التي وفرت لهم الحماية.

تمت العملية بسرعة وانزلقت الولايات المتحدة إلى حرب مديدة ستستمر 20 عاماً، توهمت خلالها أنها بنت نظاماً قادراً على الثبات وتنمية البلاد وضمان عصرنتها، إلا أنها في النتيجة فشلت وانهارت البنى التي دعمتها من دون قتال.

اعتُبرت هزيمة فيتنام انتصاراً للاتحاد السوفياتي والصين وحركات الاستقلال المدعومة من “المعسكر الاشتراكي” في حينه. ولذلك لم يتأخر الوقت حتى شهدنا تحولات كثيرة في عديد من بقاع العالم. انهار نظام الاستعمار في أفريقيا وولدت دول جديدة مستقلة، واتسعت الأمم المتحدة لأعضاء جدد، وانخرط الاتحاد السوفياتي وكوبا في أفريقيا بقوة، وتصاعدت الثورات المعادية للولايات المتحدة في الأميركتين الوسطى والجنوبية.

كان ذلك بمثابة قطاف سوفياتي للهزيمة الأميركية في فيتنام على المستوى الدولي في إطار الصراع بين معسكرين متناقضين، وهذا أمر طبيعي قياساً إلى ظروف الحرب الباردة المحكومة بالتوازن النووي، لكن السؤال اليوم من سيحاول الاستفادة من الرحيل عن أفغانستان؟

لم يعد الزمن زمن الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية. الاتحاد السوفياتي نفسه انتهى عشية الهجوم الأميركي على كابول، وتحولت الصين منذ نهاية السبعينيات من بلد يُصدر كتاب ماو الأحمر إلى قطب اقتصادي يغزو العالم ببضائعه، واخترع قادتها صيغة حكم  لشعب واحد في نظامين…

عادت الصراعات الدولية إلى صيغتها مطلع القرن الماضي. نزاعات ومطامح جيو سياسية تملي تحالفاتها المصالح المباشرة بعيداً من أفكار القرن العشرين الكبرى. سارعت روسيا والصين لترتيب علاقتيهما مع “طالبان” العائدة إلى السلطة، ولم تتعد شروط أميركا والغرب للعلاقة مع الحركة  التزامها عدم  الإيذاء، مع تمسك قد لا يعني شيئاً باحترامها حقوق المرأة والإنسان…

بدا العالم الذي استنفر يوماً ضد “طالبان” مستعداً لقبولها عضواً في “مجتمعه الدولي”. لم تبد روسيا غريم الأميركيين التاريخي في تلك البلاد الجبلية حماسةً لاستغلال “هزيمتهم” بقدر ما شعرت بارتباك ومخاوف إقليمية. الصين نظرت إلى التغيير الحاصل بعين مشروعها “الحزام والطريق”، والهاربون من أبناء الإيغور إلى المدن الأفغانية اختبأوا في بيوتهم وبدأوا البحث عن ملجأ آخر.

إيران كانت الأوضح في توصيف الحدث الأفغاني. وعلى الرغم من انقسام الرأي فيها بشأن عودة “طالبان”، إلا أنها أدرجت هذه العودة في سياق مشروعها المعلن لطرد الوجود الأميركي من “غرب آسيا” وإحلال محورها مكانه. وتحاول إيران المذهبية في ذلك لعب دور المعسكر الاشتراكي في انتهازه فرصة ما بعد هزيمة فيتنام، لكن بأدوات مختلفة كلياً، يغيب عنها مشروع التحرر وقيام الدولة الوطنية، لمصلحة التوسع الإيراني وتوطيد شبكات التنظيمات المذهبية التابعة من “فاطميون” في أفغانستان إلى “زينبيون” في سوريا و”حيدريون” في العراق، وصولاً إلى “حزب الله” في لبنان والحوثي في اليمن.

يقول الباحث باتريك كلاوسن في ندوة نظمها معهد واشنطن، “يبدو أن طهران غيرت وجهة نظرها… فالمرشد علي خامنئي الذي طالما انتقد طالبان بحدة، لم يتحدث ضد الحركة منذ 2015… ويركز الإعلام الإيراني على موضوع الهزيمة الأميركية بدلاً من سيطرة طالبان. وقد تبين أن العداوة المشتركة تجاه واشنطن شكلت حافزاً قوياً دفع طهران إلى التعاون مع الجماعات المتطرفة… ويجب على واشنطن أن تحدد المقاربة التي ستنتهجها بناء على هذه الحقيقة. فمن المستبعد أن تتخلى طهران عن هدفها بزعزعة استقرار المنطقة ونشر الصواريخ التي تهدد الأهداف الأميركية والحليفة، لذلك لا يجدر بواشنطن أن تهدر طاقة لا داعي لها لمحاولة الحد من هذه الأعمال بدلاً من الرد عليها”.

كانت “حماس” بين أول من هنأ “طالبان”، ومرت أفكار في ذهن الحشد العراقي والحوثي اليمني عن تكرار التجربة في العراق واليمن، وفي لبنان يمسك “حزب الله” بمفاصل البلد، ويُسهم في معركة إيران الكونية. إنها تداعيات أفغانستان التي تصب في خدمة المشروع الخميني القديم.

يروي نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، أنه في “23 من يونيو (حزيران) 1985، وصل رئيس مجلس الشورى الإيراني هاشمي رفسنجاني إلى دمشق”، وروى للرئيس حافظ الأسد التالي، إسرائيل دخلت لبنان في 1982 حتى لا نتقدم إلى خور مشهر. وإذا انتصرت إيران (في الحرب مع العراق) ستصبح حدودكم مع العراق وتركيا وإسرائيل مرتاحة… لأنه ستكون هناك مساحة من حدود أفغانستان حتى لبنان قطعة واحدة”.

لم تهزم إيران العراق، لكن الولايات المتحدة غزته وسهلت وضع اليد الإيرانية عليه، وها نحن الآن نتلمس معاني نبوءة رفسنجاني قبل 36 عاماً!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button