«حقوق الإنسان» الصيني
بقلم: سوسن الأبطح
النشرة الدولية –
حرب «القيم» على أشدها بين الصين والغرب، والسنوات المقبلة تنذر بمزيد من العواصف بين نموذجين، يتسابقان على ادّعاء إنقاذ البشرية. فقد نشرت الصين «الكتاب الأبيض» حول «حقوق الإنسان»، مفندة أهم إنجازاتها في مجال رفع مستوى حياة مواطنيها، من فقر مدقع إلى حياة رغيدة، تفخر بها، وتتمناها لبقية الشعوب.
وتطرح الصين رؤيتها الخاصة لهذا المصطلح الذي احتكر الغرب تعريفه واضعاً «الحرية» و«الديمقراطية» على رأس اللائحة. فهي لها أولويات أخرى، ورؤية نقيضة لما عرفناه منذ «الثورة الفرنسية»، بعد أن «فازت في أكبر وأقسى معركة ضد الفقر في تاريخ البشرية». الصين تفاخر أنها ضمنت في ثلاثين سنة، لمواطنيها «حقهم في الغذاء والمياه النظيفة والخدمات الطبية والسكن الآمن للفقراء، والتعليم الإلزامي في المناطق الأشد فقراً. وبنت مجتمعاً تسوده الطبقة الوسطى، وأصبح شعبها مزدهراً ومتناغماً وسعيداً».
تنشر الصين أرقاماً مثيرة بالفعل، إذ إنها ضاعفت مساحة الغابات على أراضيها، رداً على اتهامها بأنها الملوث الأول في العالم، ومصدر انبعاث الغازات السامة. وتمكنت من محاصرة وباء «كورونا» بنظام صحي ابتكرته، وأدوية تقليدية في مجملها، ولم تكلف مرضاها قرشاً لحمايتهم. وأنقذت 99 مليون نسمة من الجوع، وزاد متوسط الأعمار عندها، خلال عقد واحد من 67 سنة إلى 77 سنة، هذا عدا الوفرة المالية التي لم تعد بحاجة للتحدث عنها.
يباهي الصينيون بنتائجهم، ويعتبرون أرقامهم «صفعة على وجه الولايات المتحدة والغرب» بعد استغلال طويل، و«استنزاف للعقول»، وفرض عقوبات، وتشويه سمعة.
ما يحدث في الصين ليس بالسوء الذي يروّج له، ولا بالمثالية التي يعرضها النظام الشيوعي باعتباره أفضل من طبّق الاشتراكية بعدالتها وسموها. لكن الجهود حثيثة للقول إن الرؤية الصينية هي البديل عن النظام «الرأسمالي» الذي بدأت إخفاقاته تنذر بتململ في دول العالم الثالث. يلتقط تشانغ يونغ خه، العميد التنفيذي لمؤسسة حقوق الإنسان، في إحدى الجامعات الصينية المناسبة، ليشرح أن بلاده لا تقدم «نهجاً محلياً للتنمية الاقتصادية، وحسب، ولكن أيضاً لتنمية حقوق الإنسان، التي يمكن أن تتعلمها الدول الأخرى، وخاصة النامية منها».
تغيب كلمة «حرية» بشكل شبه كلي عن «الكتاب الأبيض» وتحضر «ديمقراطية» بوجه صيني، يعطي الكلمة للنخب داخل الحزب. هؤلاء يتم انتقاؤهم من بين الأنبغ والأفضل سلوكاً وإخلاصاً.
هذا لا يعني أن كلاً من النموذج والقيم الغربيين لا يشكلان عقدة في شرق آسيا، لكن النظام الصيني، يسير وفق نهج، هو أقرب إلى ثقافته الخاصة، منه إلى مشتهى النفوس المتطلعة صوب الغرب.
فالأولوية الصينية، بعد كفاية الإنسان، هي تربية جيل معرفي، وليس تحقيق بعض الأرباح البسيطة الزائلة، في سوق نهمة. فللثروات وجوه، وأهمها العقول. يعترف تيم كوك الرئيس التنفيذي لـ «أبل»، أن تمركز شركته في الصين، ليس للإفادة من اليد العاملة الرخيصة، التي لم تعد كذلك أبداً، بل للإفادة من الكفاءات العلمية الاستثنائية للصينيين التي لا يمكن العثور عليها، في أميركا أو أي مكان في العالم..
تقبل السلطات على قرارات مستهجنة، مثل منع الأطفال والمراهقين مؤخراً، من ممارسة ألعاب الفيديو عبر الإنترنت، لمدة تزيد على 3 ساعات أسبوعياً. تمارس الدولة وصاية الأبوين الحازمين، حين تقرر لكل طفل ساعة في اليوم، بين الثامنة والتاسعة مساء، نهاية الأسبوع وأيام العطل، ولا تعترض حتى شركات الألعاب وهي تتحمل الخسائر. فالخسارة الكبرى هي الاستخفاف بالمستقبل.
تقدم الصين اجتهادها وتجربتها كبديل عن نموذج غربي، لا يبدو خلاصاً لدول ما عادت تطلب أكثر من كفايتها ولا تجدها.
أول كلمة في كتاب كونفوشيوس «الحوليات» هي «تعلّم». التعليم قيمة أولى في الصين. على امتداد مئات السنوات كان «الماندرين»، أي المثقف، هو الذي يحكم. هؤلاء يتم انتقاؤهم بفضل الامتحانات الإمبراطورية القاسية التي يخضعون لشروطها، بحيث يتقدم الأفضل وليس من يختاره الناس. لا مكان لكلمة العامة، وأهوائهم. تلك طريقة أخرى في رؤية صلاح المجتمعات. فقصص التضحية في سبيل المعرفة، والبذل من أجل نيل العلم، هي من بين الأكثر شيوعاً في الصين، لتربية الأطفال.
لكل أمة خياراتها. والصين تقول اليوم، إنها وجدت الحل.
ومن يظن أن الأمر مجرد كلام عابر، فهو واهم. الطموح كبير، والعمل متواصل. فما أن قرأ الناس «الكتاب الأبيض» حتى أطلقت خطة الصين محكمة لتطوير حقوق الإنسان، في السنوات الأربع المقبلة. وهي استكمال للرؤية السابقة. لكن اللافت فيها هو الفقرة التالية: «ستشارك الصين، في جميع الأعمال المتعلقة بآليات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وستدفع المجتمع الدولي نحو إقامة نظام حوكمة أكثر عدالة وإنصافاً ومعقولية وشمولية، والعمل معاً لبناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية». فأي تعريف لحقوق الإنسان ستكون له الغلبة والفوز، في الهيئة الأممية؟ ذلك هو السؤال!