الكاتبة فاطمة غندور: المرأة الليبية تخوض نضالاً للتمكين … السماء لا تمطر ديموقراطية ومساواة
النشرة الدولية –
النهار العربي – روزي الخوري –
عندما نشرت كتابها عن النساء الليبيات الملهمات، أرادت فاطمة غندور قراءة مشوارهن وتقييم تجربتهن كسبيل للاقتداء والتسلح، في مواجهة دعاوى العنف والتطرف، وقد واجهن معترك تأسيس الدولة الليبية. تشير الكاتبة والباحثة الليبية والاستاذة الجامعية والمديرة العامة لجريدة “ميادين”، الدكتورة فاطمة غندور، إلى أن المرأة الليبية تعاني على مختلف المستويات وأن تمكينها اقتصادياً في ليبيا وخلق وضعية لاستقلالها المادي عبر فرص العمل، ما زالا أمرين منقوصين.
تحدثت غندور لـ”النهار العربي” عن خبرتها الطويلة في مجالات عديدة وعن دور المرأة الليبية وتحدياتها.
* إلى أي مدى حريّة التعبير مصانة في ليبيا؟ وهل من ضوابط مُعيّنة؟
– ما لم يُؤسس له، نظل نناضل لأجله. ليبيا التي عبرت عقود الديكتاتورية، بلغت الضوابط المقيدة بها حداً لا يوصف، حتى أن إطلاق “الفكاهة” صدر قانون بمنعه. ضوابط خانقة للصحافيين الذين لا ينسجون على منوال الموالاة للسلطة، طاولهم الاعتقال والتعذيب، والاغتيال (سجناء قضية الصحافة 1978- واغتيال السلطة لمذيع ليبي على رصيف بلندن 1980، واغتيال الصحافي ضيف الغزال 2005). مُنعت الأحزاب، ومُنع المجتمع المدني، ومُنعت الصحافة الحرة.
مع بدء ثورة شباط (فبراير) 2011 وحتى 2013، خرج أكثر من مئتي صحيفة ومجلة مستقلة، ومركز إعلامي، للتواصل مع العالم. كان تسجيل الصحيفة في وزارة الإعلام يتطلب فقط إذن الصدور والتوزيع. لكن لعلعة السلاح، والصراع على السلطة عام 2014 أرجعا الصحافة الى مربع زمن الديكتاتورية. صحافة الحكومة يقودها كادر وظيفي كبير، يتبع هيئة الصحافة على مستوى البلاد، وتكاد تكون نسجاً، ونسخاً عن بعضها البعض. لا صحافة للرأي والرأي الآخر، تطرح الإشكالات، تنتقد وتراقب، كما أتيح ذلك لحظة الثورة، فغادرت مواقع وفضائيات خارج ليبيا لتقول كلمتها من دون رقيب، ورغم ذلك طال مراسلوها على الأرض العقاب، تبعاً لوجودهم في جغرافيا طرفي الأزمة!.
التركة الثقيلة ما زالت تلقي بظلالها، حتى مع جهود منظمات ومؤسسات صحافية مستقلة تصدر بياناتها وترصد الانتهاكات وتدافع عن المعتقلين وتضغط باتجاه الافراج عنهم، وتُعلي الصوت لعدم الإفلات من العقاب. اليوم يتاح لليبيين أن تكون “الميديا” مجالاً للرأي، وكشف الممارسات المنتهكة لحق الرأي والتعبير.
* هل من السهل على المرأة الليبية أن تصل إلى مراكز متقدّمة؟
– ليس سهلاً، لكن المرأة الليبية كما نساء العرب والعالم، تخوض نضالاً لأجل التمكين السياسي والاقتصادي والمجتمعي. مع بدء خوض الليبيين المعترك الديموقراطي، بعد قطيعة نصف قرن من حكم الفرد، أسست سيدتان حزبين، وكانتا سباقتين في منطقة الثورات … السيدة وسيلة العاشق أسست “حزب الأمة” في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، وبرز نشاطها في أول انتخابات، والسيدة فاطمة باقي أسست حزب “إيثار الكرامة”، ثم حازت مقعد المرأة في انتخابات بلدية طرابلس. وفي بنغازي فازت في انتخابات المجلس المحلي 2013، استاذة الاقتصاد في جامعة بنغازي السيدة نجاة الكيخيا، متقدمة على قائمة رجال. وساهمت النساء في وصول أول تيار مدني الى مقاعد برلمانية 2012-2014 بمشاركة 40 في المئة من أصواتهن في الصناديق. لم ينحزن الى تيار إسلامي (كما عند جارتينا مصر وتونس 2012)، ولا حديث أعلامياً عن نساء ليبيا في ذلك، وكنت مرشحة برلمانية مستقلة.
وفي هذه السنة 2021، عُينت خمس وزيرات في حكومة الوحدة الوطنية للمرة الأولى في تاريخ ليبيا، وبالتأكيد الطموح أكبر من حيث المساواة وتكافؤ الفرص.
* أين ينصف القانون الليبي المرأة، وأين يظلمها؟
– دبج معمر القذافي، من قوانين تحرير المرأة وإنصافها بلا حد، ومشاهد إحاطة النساء به أيضاً لا تعد ولا تحصى. لكن البرلمان (مؤتمر الشعب العام) ابتدعه لعقود، ولم تمثل المرأة خمسة في المئة من مقاعده، وعين خلال أربعين عاماً من حكمه وزيرتين للتعليم والإعلام، ومسؤولة برلمان للشؤون الاجتماعية، لم نسمع لهن صوتاً.
هناك آلاف مؤلفة من المعلمات والطبيبات والحقوقيات مقصيات عن نقابات واتحادات (تخصهن)، مقرات شكلية ظلت للذكور، موالية تلهج بالخطاب الأوحد. وفيما نشهد مع عقد الثورة، يبدو كمبتدأ، تصنعه النساء بارادتهن، حتى وإن صعُب، مُنتخبات عن دوائرهن على مستوى ليبيا، أو قياديات بنشاط المجتمع المدني، أو من برزن في الشأن الثقافي، شاعرات وروائيات وناقدات وغيرهن.
* هل حقوق المرأة مهدورة في ليبيا؟
– في وضعية انتقالية، وثورة عسيرة منذ 2011، وبمفعول “السلاح” ثقيله ومتوسطه وخفيفه، تُهدر حقوق الرجل والمرأة. الرجل يواجه المسلحين، والمرأة كذلك، صحيح أن ثقل المسألة عند المرأة أصعب، وعلى رأسها ثقل التقاليد والمجتمع الأبوي، لكن الرصاص الطائش لا يختار هدفه. وعلى ذلك كلاهما في الخطر.
* ما المعوقات التي واجهتك كامرأة للوصول الى ما آلت إليه أوضاعها اليوم؟
– في المبدأ، ساعة اخترت وقررت طريقي، كان عليّ أن أدرك أن ما من سبيل حياة نصنعه بإرادتنا وليست فيه صعوبات. حظيت بأسرة داعمة، قادها أب مستنير، وهو معلم القرآن، في شبابه رافق موثقاً، مستشرقاً فرنسياً أنجز كتاباً عن واحات جنوب ليبيا. أمي محت أميتها، زوجة له لم تعرف المدرسة قبلها. ساعة تركت تخصصي الأول، معلمة علوم، باتجاه مسرح الطفل، حضر والدي مسرحياتي وصفق لتلامذتي. أكملت دراستي الجامعية في المسرح، وأتذكر قوله بعد حوار بيننا: في مجتمعنا تتركين التعليم، وتذهبين إلى الإذاعة، وتكملينها بالمسرح، عليك المواجهة وتحمل مسؤولية خيارك.
كنت أقدّم دروساً تعليمية في التلفزيون عام 1991، ولاقى ذلك موقفاً من عائلتي، ما الجدوى؟ ونحن في مجتمع يُلغى فيه تعلم لغة أخرى، ولا نحقق رقماً في مستوى تعليمي؟ لم أكن من اليائسين، وحملت دائماً مبدأ أن هذا وطني، وهؤلاء أولاده، ويجب العمل وفق المتاح حتى والبيئة طاردة نابذة، أبي من علمني أن أدافع عما أختار، كنت الطالبة الأولى، التي تعاود قسمها بكلية الفنون والإعلام (جامعة طرابلس). كأستاذة مسرح، ترأستُ (شعبة النقد والتأليف)، وفي ذلك واجهت ممانعة، من زملاء ذكور في القسم لحظة تعييني عام 2008، بل ومن أساتذة كنت تلميذتهم المجتهدة!.
* هل تحظى المرأة الليبية بدعم ومساندة حكومية؟ ومن أي نوع؟
– في البرلمان الليبي مقاعد للمرأة وتكتُل أيضاً، ومنهن من يترأسن لجاناً، فيصير عليهن أدوار، منها إيصال مطالبات وإقرار تشريعات تخص تمكين المرأة. وأُعلن عن البرنامج الوطني، للمشروعات الصغرى والمتوسطة، لكن معالجة تمركز المرأة في الاقتصاد الليبي (كميا)، في وظائف تعليمية، طبية، خدماتية ما زالت قيد الحال. وكمرأة عاملة منتجة، لا تشكل النساء أكثر من 26 في المئة، من سوق العمل (الاقتصاد المنزلي غير مُدرج).
في ليبيا تتساوى النساء في أجورهن مع الرجال، لكن تمكين المرأة الاقتصادي، وخلق وضعية لاستقلالها المادي، عبر فرص العمل، ما زال منقوصاً، في خريطة حكومات تعاقبت، نساء مهمشات، فقدن معيلهن في الانتفاضة 2011، ثم في حرب الإرهاب والتطرف، ما زلن يجهدن وأطفالهن، لأجل عيش الحياة، في بلد يغرق بالنفط!.
* كتاباتك وأبحاثك كيف تترجم دعم المرأة؟
– في ما أكتب وأنشر، وأيضاً في الخروج الإعلامي، أتصدى ككاتبة وكصحافية، بالرأي السياسي والثقافي، بمداخلات في قنوات محلية وعربية ودولية، وأهتم أساساً بالشأن الليبي، وأدعم دور النساء في ذلك، ليبرزن كأصوات مسموعة تملك رأياً، ومنه مواجهة من يتطرف وينادي بأن أصواتهن عورة، ولا قدرة للفهم لديهن!.
اخترقت المرأة الليبية والعربية أخيراً المؤسسات الإعلامية، وصارت حاضرة. كلما وجهنا الريموت، طلعت علينا مُعدات ومُحررات وقارئات الخبر، لكننا ما زلنا نفتقد المتصديات بالرأي، والمضطلعات بالمسائل السياسية والاقتصادية إعلامياً، كما نلاحظ غياب الكتابة البحثية، ومحللات وقارئات في الأوضاع السياسية في بلدانهن ومنطقتنا، وحتى العالم، ما نتشابك معه في قضايا عدة اليوم، كالهجرة والتطرف، وصراع المصالح والنفوذ.
وفي كتابي عن النساء الملهمات، أذهب في قراءة مشوارهن، كسبيل للاقتداء والتسلح، لمواجهة دعاوى العنف، والتطرف، وقد واجهن معترك تأسيس الدولة الليبية 1951، كما الآباء المؤسسون: وهنا المنجز التأسيسي، كرأسمال رمزي اجتماعي، مُلهم لكل مدافعٍ عن حقوق النساء، المقاومة السلمية، وفي التأصيل للتعليم والثقافة، والعمل التنموي، والسياسي، لدعم أدوار أمرأة اليوم مع ما نعيشه من متغيرات، ولأجل خلق مناخ السلم الأهلي، وتحقيق منشد العمل المدني، والتمكين.
وفي ظني أن ما خضته منذ 2011، لم أخضه قبلاً في مجال الصحافة المستقلة، وقد صارت لي جريدة “ميادين”، بملاحقها الثقافية، والرياضة، وميادين المرأة، ما عمرت بكاتبات، وصحافيات ليبيات مثل: خلود الفلاح، مريم سلامة، كريمة الفاسي، أمنة دومة، ريم العبدلي، خديجة الانصاري، عائشة صوكو، مريم الغزاوي. كما عقدت “ميادين” في صدورها وذلك عام 2012، أول منتدى للأعلاميات الليبيات: صحافة، راديو، تلفزيون، إنترنت. وميادين تُصدر من 2016 كتاباً سنوياً في الفكر والسياسة والمجتمع والذاكرة الوطنية.
* هل من امرأة ليبية تشكّل لك قدوة في مجال مناصرة قضايا المرأة والدفاع عن حقوقها؟
– خديجة الجهمي، اعتبرها مثالاً لنضال نسوي مفارق عربياً، امتد من الأربعينات الى نهاية السبعينات من القرن الماضي. عاصرت الحرب العالمية الثانية، فخرجت تشق الشوارع، في مدينة (بنغازي)، من نكبتها الحرب، فقر مدقع، لا ماء ولا كهرباء، خاطت من أقمشة مظلات، جنود الدول العظمى، المتحاربة على أرض ليبيا، ما يستر فقراء تعساء.
ثم بصوتها اذاعية، منذ منتصف خمسينات القرن الماضى، طليعية تنادي لنهضة مجتمعية، وبخاصة نسائية. وببرنامجها “أضواء على المجتمع”، ولثمانية عشر عاماً، كان نهجها: أن المجتمع كما جسدنا، اذا قويت الساقان انطلق الجسد في مسيره، متعاضداً يسند بعضه بعضاً، لا قوة لساق من دون الأخرى.
وكانت في نهاية الأربعينات من القرن الماضي تقطع البر صبية لتفتح صفحة مغامرتها شغوفة، وتنزل مصر، وتعود لها، فتستفيد من معطيات المكان… تكمل تعليمها وتتلقى دورات صحافة، ولغة، ثم تتقدم مترشحة في انتخابات النادي الليبي، تحرز سبقاً لولا صوت، تكتب ورقة مبكرة عن أهلية المرأة للقضاء، تصل لندن في مبتدأ مشروع راودها لتأسيس محطة تلفزيونية بعد ترؤسها لأول مجلة للمرأة والطفل في ليبيا، وهي أول شاعرة غنائية نسائية، وقاصة للأطفال، وكاتبة ترأست لجنة أول لقاء للكتاب والأدباء في ليبيا 1967.
* كيف تنظرين الى مستقبل ليبيا؟ وما الذي تحقّق من إنجازات في السنوات الأخيرة؟
– قدرُ ليبيا الجيوسياسي، أنها تشتبك مع محيطها الإقليمي والدولي في جُل قضاياها، السياسية والاقتصادية، حصل ذلك مذ أعلنت الأمم المتحدة منحها استقلالها عام 1949، وحتى مع توافر معطيات تجعل من حل الأزمة الليبية ممكناً، فإن صراع السلطة والثروة، والسلاح في كل يد، ودخول أطراف دولية، يعقّد المسألة ويجعلها في مختنق نفق.
* إلى أي ليبيا تطمحين؟ وأي إمرأة ليبية؟
– السماء لا تمطر ديموقراطية ومساواة، ليبيا كما أي بلد من بلداننا في المنطقة، خاضت متغيراً، تعاني تركة مؤثرة في الدفع بحراك مجتمعي في كل الأوجه، لكني أرى روح المبادرة، تنبثق في مشروعات فردية، وجماعية مقاومة راهن وواقع السلاح. ليبيا بحاجة ومع ما أتيح في يومنا هذا من انفراجات قانونية، الى كل من يعمل، ويُبادر… ليبيا يمثل شبابها من الجنسين رقماً معتبراً (67 في المئة) لو صحت فاعليته وحراكه، من أجل أن تكون بلداً ديموقراطياً، ينال فيه الفرد مواطناً ومواطنة حقوقهم، ويتساوى في ذلك الأفراد في المراكز كما الأطراف. أرى النساء في بلدي مُعافرات لأجل مستقبل ليبيا السلمي، الديموقراطي، يقدمن أراوحهن دفاعاً عن قيم الحرية وحقوق الإنسان … البرلمانية فريحة البركاوي، الحقوقية سلوى بوقعقيص، الإعلامية نصيب كرنافة، المحامية حنان البرعصي، الناشطة المدنية انتصار الحصايري، يكتبن تاريخاً نضالياً كما قرأناه، لشعوب لم تكف نساؤها عن دفع أثمان لأجل صنع غدها، وما أرجوه وأدعو إليه أن تتخذ المرأة لدينا، هدفاً ومشروعاً في حياتها، سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً، وفنياً، تعمل لأجله، وتحدد خريطتها على مدى قصير وبعيد، كي لا تتمظهر أغلب مشاريعها في مجرد إطلاق بصالة فخمة، ورفيقات يتسلمن شهادات تكريم، وبطاقات السفيرات، على ما لم يصبرن عليه وينجزنه!