سوق الطحين الذي غيّر حياتي* أحمد الصراف

النشرة الدولية –

سألتني صديقة، ضاحكة بسخرية: هل تصدّق أن هناك سوقاً في الكويت يسمى «سوق الطحين»؟ وأردفت متسائلة: أي طحين هذا والكويت كلها صحراء لا تعرف زراعة القمح؟

فقلت لها: ويحك، إنك «تخبطين في الزرع»! فهذا السوق جزء من ذكرياتي، بل ومن حياتي! ففغرت فاها متعجبة، وبان الفضول عليها، وقلت لها إن الرد سيكون في صورة مقال.

كان اسم الشارع الوحيد الواسع والقصير الذي يربط، حتى الآن، بين شارعي الغربللي (فلسطين تالياً)، وسوق الخضار، يسمى «سوق الشعير»، يوم كانت للشعير شنة وطنة، كغذاء للماشية والدواب. ولكن مع انحسار استخدام الدواب للنقل والانتقال، وقلّة الاعتماد على منتجات الماشية من حليب وأجبان، بعد تحسّن الوضع الاقتصادي للسكان مع وصول عائدات النفط، في بداية الخمسينيات، وحسن توزيعها على المواطنين، زاد الإقبال على شراء السيارات ومركبات النقل، كما زاد الاعتماد على المعلبات، فاختفت الدواب وماشية البيوت، واختفى معها بالتالي الشعير، أو كاد، وتحوّل نشاط ذلك الشارع من الشعير أساساً إلى الطحين وغيره من المواد الغذائية، وبدأ ذلك مع غزو أكياس طحين شركة مطاحن الدقيق للسوق، وتسويقه عن طريق تجار الجملة في ذلك السوق للمخابز والأفران والمطاعم ومصانع الحلويات وغيرها.

كان محل جدّي ووالدي يقع في سوق الشعير (الطحين تالياً) بعد أن اضطرا إلى هجر مهنة الصرافة لمن جاؤوا بعدهما، وكانوا أكثر مالاً وأعلى احترافاً.

كنت في تلك السنوات، وأنا في بداية سني مراهقتي، أقضي العطلة الصيفية بكاملها، سنة تلو الأخرى حتى عام 1964، معهما في المحل، وكانت إدارته أحياناً كثيرة تقع على كتفي الصغيرتين، عندما كانا يتركانني مع العاملين في المحل، ويذهبان لقضاء إجازتهما الصيفية في لبنان أو إيران أو العراق.

كانت أياماً صعبة، ولكن تعلمت منها الكثير وتعرفت خلالها على شخصيات مميزة من شركاء جدّي ووالدي، ومن تجار السوق ومرتاديه من الشخصيات البارزة.

كنت أتجه صباح كل يوم، 6 أيام في الأسبوع، إلى المحل، لأبقى هناك حتى الواحدة، ثم العودة إلى البيت وتناول الغداء والراحة، ثم العودة إلى المحل في الرابعة عصراً، وإغلاق المحل والمخزن في السابعة مساء تقريباً، والاتجاه مع المحاسب أو السائق لتحصيل الديون من المخابز والأفران والبقالات في مختلف مناطق الكويت، ولا أعود للبيت قبل العاشرة مساء منهكاً جائعاً، لتبدأ الدورة ذاتها في اليوم التالي طوال العطلة الصيفية.

صقلت تلك الأيام والتجارب شخصيتي وغيرتا نظرتي للحياة، وعندما بدأت مرحلة الدراسة الثانوية «التجارية»، شعرت بأنني أضيّع وقتي فيها، وأن فهمي للتجارة أعلى من فهم بعض مدرّسي المواد التجارية، وأن بإمكاني أن أفعل شيئاً أفضل من مجرّد الجلوس على مقاعد الدراسة، فقرّرت ترك المدرسة، وكانت تلك نقطة تحوّل مهمة في حياتي.

صُدم والدي من قراري، وعندما يئس من ثنيي عنه، عرض عليّ أن أعمل معه مقابل راتب مجزٍ فرفضت. لم ييأس وعرض إعطائي مبلغ 70 ألف دينار للدخول في شراكة مع أحد التجار، وكان مبلغاً كبيراً، ولكني رفضت، وقلت له إنني حصلت على وظيفة في بنك الخليج براتب 70 ديناراً، فنظر إلي متسائلاً: كيف تقبل 70 ديناراً وترفض سبعين ألفاً، وفرصة أن تصبح ثرياً؟

فكان ردي بسيطاً وحاسماً:

ما أحب سوق الطحين، ولا التجارة في سوق الطحين!

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى