لمصلحة مَنْ يسيّس البيطار تحقيقاته في انفجار مرفأ بيروت؟
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
“التسييس” انحراف قلّ أن تنجو هيئة قضائية في العالم الثالث من الوقوع في محظوره.
وبفعل التجارب الكثيرة، لا يمكن، بأيّ شكل من الأشكال، تبرئة القضاء اللبناني من التسييس، ولا سيّما على مستوى النيابات العامة، وأحياناً على مستوى قضاة التحقيق.
ولكن لتستقيم تهمة التسييس لا بدّ من توافر شروط عدة، أبرزها أن يكون الجهاز القضائي المعني أداة بيد السلطة ضد معارضيها، ووسيلة بيد “المستقوي” ضد خصومه أو منافسيه.
ولم يعرف تاريخ القضاء في العالم الثالث، قضاة تمكّنوا من تسييس إجراءاتهم للنيل من الحكّام والأقوياء والمستقوين.
ما يحصل في لبنان، حالياً، لجهة توجيه تهمة التسييس إلى المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، يناقض كل هذه الشروط، إذ إنّ فريقاً معروفاً عنه أنّه أقوى أقوياء لبنان، ويضع يده على القرارات السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية والحدودية وغيرها، يتّهم قاضياً لم يحمل يوماً سوى كتب القانون، بأنّه يتآمر ضدّه.
وبما أنّ “هيدا القاضي” كما سمّى الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله المحقق البيطار، ليس من “جنس الملائكة”، فإنّ لا شيء يحول دون افتراض صحّة تسييس إجراءاته التحقيقية.
وعليه، فإنّ من واجب مطلقي شبهة التسييس أن يبلغوا اللبنانيين بالجهة التي من أجلها يسيّس المحقق العدلي إجراءاته.
إذاً، من هي الجهة التي يسعى “حزب الله” وجميع المدّعى عليهم إلى ربط البيطار الذي باتت التهديدات تلاحقه حتى إلى أحلامه، بها؟
في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وجد “حزب الله” ضالّته في إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية اللتين “تتآمران” مع “قوى 14 آذار”، فركّب أفلاماً ضد المحققين وضد الإعلاميين وضد السياسيين وضد الأمنيين، ليوهم الرأي العام بوجود تسييس يستهدفه.
ثمّة من صدّق أو أراد أن يصدّق هذه التهمة، انطلاقاً من أنّ هناك عداوة بين النظام السوري و”حزب الله” من جهة، وفئات لبنانية وقوى دوليّة، من جهة أخرى.
وبدت تهمة التسييس منطقية، إذ توافرت لها العناصر الضرورية: الجهة المستفيدة من التسييس، أسبابها الموجبة، وقدرتها بالمقارنة مع الجهة “المستهدفة”.
ولكن، في ملف انفجار المرفأ، فإنّ شبهة التسييس مشوبة بعيوب جوهرية، لأنّ مطلقي هذه الشبهة لم يتّفقوا على الجهة المستفيدة من هذا “الانحراف”، ولا على قوّتها بالمقارنة مع قوة “حزب الله”.
لقد تعدّدت روايات الأطراف المتضررة من التحقيق، لدرجة أنّها تضاربت، حتى صحّت فيها صفة “الهزل”:
ـ فريق “نبش” أنّ عائلة البيطار تميل، تاريخياً، الى “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، وتالياً فابنها طارق قد يكون في وضعية المنتقم من أصحاب “الأهواء السيادية”!
ـ فريق يشتبه بأنّ البيطار يعمل، بالتواطؤ، مع فريق رئيس الجمهورية ميشال عون، ويأخذ توجيهاته المباشرة من مستشاره سليم جريصاتي، وتالياً هو في وضعية من يحاول ضرب خصوم “التيار الوطني الحر”!
– فريق يعتبر أنّ المحقق البيطار يعمل، في السر، لمصلحة “حزب الله”، والحزب، في الهجوم عليه إنّما يحاول إيجاد مشروعية له، من أجل أن يبرئه لاحقاً ويبرئ جميع “أصدقائه” المدّعى عليهم، ليتمكّن لاحقاً من الانقضاض، بقوة، على خصوم الحزب في الداخل!
– فريق وجد، في البيان الأميركي الذي ندّد بالتهديد الذي وجّهه المسؤول في “حزب الله” وفيق صفا للمحقق العدلي، تدخّلاً أميركياً في التحقيق للنيل من “عزّة المقاومة” و”صمود المقاومة” و”انتصارات المقاومة”!
– فريق وجد في البيان الصادر عن الخارجية الفرنسية، بمناسبة التنديد بالتهديد، تدخّلاً أوروبياً سافراً للنيل من “خيرة القوم”!
– فريق يعتبر أنّ البيطار، من موقعه، يحاول إخفاء دور المعارضة السورية، في استيراد “نيترات الأمونيوم” التي حماها، برموش العين، حلفاء نظام بشّار الأسد!
– فريق يقوده رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وجد أن البيطار يعمل “شعبوياً”، وبالتالي فهو يسيّس التحقيق لمصلحته!
إذاً، تعدّدت الروايات ولكن الجهة التي من أجلها يتم “التسييس” المزعوم، بقيت غير محدّدة وضبابية.
وحال هذه الروايات “الاتهامية” حال هذه الحكاية الساخرة التي لا يمكن التغاضي عنها في هذا المجال: إنّ رجلاً أخرس قال لرجل أطرش إنّ رجلاً أعمى شاهد رجلاً مشلولاً يطارد رجلاً مبتور اليدين ليمنعه من شدّ شعر رجل أصلع!
وهذا الضياع في اعتماد رواية شبه موحّدة، والعجز عن الإشارة الى جهات محدّدة، لا يعني سوى أنّ المحقق البيطار “بريء” من هذه الشبهة، فيما مطلقو هذه الشبهة متورطون بها، فهم، في واقع الأمر، مَنْ يتطلّع الى تسييس التحقيق حتى يبعده عنهم.
إن نقل ملف التحقيق الى مجلس الوزراء، هو فعل تسييسي مكتمل المواصفات، فما دخل السلطة التنفيذية بأعمال المحقق العدلي؟ وأيّ قانون أعطى الحكومة أن تكون مرجعية مراقبة أعمال المحقق العدلي؟
كما أنّ دخول “حزب الله” على الخط، بالتنديد بداية والتهديد لاحقاً، لا يهدف إلّا إلى تسييس التحقيق لمنعه من الوصول الى الحقيقة التي لا بدّ منها.
قبل البيطار، وفي إطار محاولة تهدف الى “تربية” جميع القضاة اللبنانيين، جرت تنحية المحقق العدلي فادي صوّان بعدما جرى اتهامه هو الآخر بتسييس التحقيق.
كانت مفاجأة هؤلاء الذين عملوا، بلا هوادة، من أجل “تطيير” صوّان، أنّ البيطار توصل بسرعة الى الاستنتاجات نفسها، فوسّع دائرة الملاحقات ضد المسؤولين السياسيين والأمنيين.
وهذه المفاجأة، دفعت بالقضاة الآخرين الى تحصين أنفسهم بعدما اكتشفوا أنّ “حزب الله” بصفته “زعيم” المدّعى عليهم، إنّما يريدهم منفّذي أوامر لديه، فسهروا على توفير الحماية القانونية لزميلهم.
إنّ المحقق البيطار في خطر. هو يعرف ذلك. لقد حاولوا، بالتدليس، توريطه في أمور مشبوهة، ولكنّه نجا منها. حالياً، يحاولون، بالترهيب الشخصي كما بالترهيب السياسي، المسّ به، من خلال التهديد بـ”فرط” الحكومة.
قد ينجح “حزب الله” في تحقيق أهدافه، ولكنّه أدخل نفسه في خانة الخاسرين، مهما كانت نتيجة معركته.
من دون أيّ مجهود من “هيدا القاضي”، وضع “حزب الله” نفسه في قائمة المتورطين بانفجار المرفأ. لقد أضحى، في الوجدان اللبناني، سواء أظهرت أفعاله أم لم تظهر، متورطاً لم ينجُ بنفسه إلّا بفعل الترهيب الذي مارسه.
ومن دون أيّ مجهود من البيطار أيضاً، وضع السياسيون والأمنيون المدّعى عليهم، أنفسهم، بغض النظر عن النتيجة التي سيحققونها من الهجوم على المحقق العدلي، في وضعية المتورطين.
إنّ إدارة المعركة ضد المحقق البيطار، وهو شخص لا تقف وراءه ميليشيا، ولا تحميه الأجهزة الأمنية التي يحاربه رؤساؤها، سقطت في “صلف” غير متناه، فأظهرت لضحايا انفجار المرفأ وذويهم، أنّهم، في الحقيقة، لم يدفعوا ثمن إهمال “نيترات الأمونيوم” بل ثمن تحكّم الظالمين بمصير البلاد والسلطة والقانون والقضاء.
لقد أنجز البيطار خدمة كبيرة للبنان، حتى من دون إصدار أيّ قرار اتّهامي، إذ بيّن أنّ رجلاً واحداً يمكنه إذا تمسّك بواجباته وبالقانون، أن يهزّ أركان ميليشيا سيطرت على الحياة السياسية بترهيب كبار الزعماء.
من الطبيعي أن تُجمع غالبية السياسيين على كره المحقق البيطار، فلقد أظهرتهم شجاعته… جبناء.
ما ينتظره كثيرون حالياً ليس انتصاراً مادياً يحقّقه البيطار على “حزب الله” وصحبه، بل أنْ لا يسمح اللبنانيون والمجتمع الدولي بأن يصبح حال المحقق العدلي، كحال ذاك الذي يحرق نفسه ليضيء ظلمة الطريق لشخص ضرير.
وهذا تحدّ يصيب، أوّل من يصيب، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فالحكومة التي وافق على تشكيلها، بتفاهم مع إيران، لم تنحرف عن الصفة التي وعدت بها المبادرة الفرنسية فحسب، بل تكاد تصبح حكومة رعاية المتّهمين أيضاً، والتحقيق في ملف المرفأ الذي تعهّد بحراسته وحرّك من أجله النيابة العامة في باريس، يقوده “حزب الله” الذي ارتضى أن يتعامل معه، إلى الهاوية، فيما دماء الضحايا، وبينهم فرنسيون، التي تعهّد بالسهر على وصولها الى العدالة، لم يعد يحميها من أن تُراق مجدداً، سوى قاض لن تتمكّن شجاعته، مهما عظمت، أن تحميه، طويلاً، من الترهيب والإرهاب.