خياران لـ”حزب الله” في لبنان… إما أن يتمسك بسيطرته على كل البلد وإما أن يقبل بتسوية مرحلية
بقلم: وليد فارس
النشرة الدولية –
بعد يوم الاصطدام الدامي الذي حدث في بيروت الكبرى، الأسبوع الماضي، والذي سقط فيه قتلى وجرحى من “حزب الله”، والتهديدات العنيفة الخارجة عن قيادة الحزب ضد من وصفتهم “بالعملاء الأميركيين والإسرائيليين، والميليشيات الطائفية”، بدأت معادلة جديدة بالظهور لدى المهتمين بالملف اللبناني في العواصم الغربية، وبخاصة في واشنطن وباريس. وهذه المعادلة بدأت تغير الفهم الدولي للواقع اللبناني عامة، ولحقيقة وضع “حزب الله” على الأرض بخاصة. وخلاصة هذه المعادلة باتت تتوضح على أن أمام الحزب في قاعدته الأولى والأساسية، أي أراضي الجمهورية اللبنانية، خيارين أساسيين، لا ثالث لهما، مع مرور الزمن. فما هما؟ وما هي نتائج كل منهما؟
كيف وصل “حزب الله” إلى السيطرة على لبنان؟
هناك روايتان تاريخيتان لسيطرة الميليشيات الحليفة للنظام الإيراني على لبنان، سيرة ذاتية بناها الحزب عن نفسه، وهي معروفة عالمياً ولدى الصحافة التي يؤثر عليها اللوبي الإيراني، وهناك حقيقة أكثر التصاقاً بالواقع التاريخي والتطورات على الأرض، وهي أن لب رواية “حزب الله” هو أن مقاتلين مقاومين من لبنان هبوا ضد الاحتلال الإسرائيلي في نهاية 1982، وتحولوا إلى “حزب الله”، وتجمعت الجماهير من حولهم، وقادوا “المقاومة الإسلامية” حتى تحرير لبنان الكامل من الإسرائيليين في مايو (أيار) 2000، ولا يزال الحزب، وفق هذه السيرة، “المدافع الأول والأقوى عن سيادة لبنان واستقلاله”، وتبقى هذه “المقاومة” قائمة، وتزيد بقوتها “حتى ينتهي الخطر”، ولكن لا أحد يعرف متى أو كيف ينتهي “الخطر المذكور”.
أما ثمن “هذه الحماية” التي يوفرها الحزب للبنانيين فهي أن يقبلوا به “كحاميهم”، بالتالي ألا يعارضوا قضيته “المقدسة”، وقد توسعت من “الدفاع عن لبنان” إلى “تحرير القدس” إلى “تغيير الأنظمة في المنطقة” إلى الوقوف مع “الجمهورية الإسلامية بوجه الاستعلاء الأميركي”. والحزب جازم أنه “باستثناء الصهاينة في الداخل”، فجميع اللبنانيين يحضنون هذه “المقاومة”، ويقدمون لها التضحيات بسبب “تضحياتها”، على الأقل هذه هي القراءة “الخمينية” للسنوات الـ45 الماضية.
كيف وصل عملياً؟
أما التطور الجيوسياسي الحقيقي فهو مختلف، إذ إنه شبيه بتطورات القوى الراديكالية الأخرى في المنطقة، التي تنمو من انقلاب إلى آخر، وبين حرب وأخرى. تاريخ “حزب الله” بدأ في إيران قبل لبنان عندما قررت قيادة “الباسدران”، الحرس الثوري الإيراني، أن تطلق تنظيماً مشابهاً في لبنان، وذلك عبر احتلال نظام حافظ الأسد معظم لبنان الذي بدأ في 1976، فعبر سوريا، وصلت بوادر الحرس إلى شمال البقاع في 1980، وساعدت على إطلاق تنظيمات أعضاؤها لبنانيون “إسلامويون” من الطائفة الشيعية، ما يعني أن الدخول الإيراني إلى لبنان سبق الاجتياح الإسرائيلي بسنتين.
وانطلق الحزب من البقاع الشمالي باتجاه وسطه، فجنوبه، فالضاحية الجنوبية لبيروت، متقدماً وراء الانسحاب الإسرائيلي بعد عقد من الصراع بين “الحركة الوطنية” و”منظمة التحرير الفلسطينية”، وإسرائيل في تلك المناطق. الميليشيات الإيرانية دخلت تحت سقف قوات الأسد، لكنها بقيت مسيطرة على الأراضي التي احتلها جيش النظام السوري (30 سنة بين عامي 1975 و2005)، وتصرفت كقوة محتلة لصالح النظام الإيراني 16 إضافية حتى 2021.
ومنذ انسحاب إسرائيل الكامل في مايو 2000، وعلى الرغم من القرار الأممي رقم 1559 بحل الميليشيات وتسليم الأسلحة إلى الجيش اللبناني الصادر في 2004، استمر الحزب بفرض نفسه بالقوة العسكرية والاستخباراتية على كل اللبنانيين، وبخاصة الذين عارضوه. من “مقاومة” مفروضة بالقوة على جزء من اللبنانيين، تحولت الميليشيات منذ 1991 إلى حليف علني للاحتلال البعثي السوري، وبعده لذراع للتوسع الإيراني، بالتالي ومنذ 2005، بات “حزب الله” هو الاحتلال.
القبض على السلطة
إبان الاحتلال السوري للبنان (فترة 1980–2005)، تحرك الحزب من ضمن مناطق سيطرة الأسد مركزاً على الإسرائيليين وحلفائه المحليين في الجنوب، وعلى إضعاف وإزالة قوة “الحركة الوطنية”. فتوصل إلى سيطرة مطلقة على الجنوب بعد انسحاب إسرائيل في 2000، وعلى الضاحية، وسيطرة مشتركة مع السوريين على مناطق في البقاع، وكان قد توغل مع شركائه في حركة “أمل” داخل مؤسسات الدولة اللبنانية تدريجياً منذ 1991، وهو بالتالي كان في موقع المواجهة مع المعارضة اللبنانية المقاومة لاحتلال الأسد والنفوذ الإيراني منذ ولادة الحزب.
أما بعد انسحاب الجيش السوري في أبريل (نيسان)، فانقضّ “حزب الله” على “ثورة الأرز”، وجبهة 14 مارس (آذار)، والحكومة اللبنانية التي انبثقت عن تلك الثورة في منتصف 2005. فاستعمل كل الوسائل المتاحة من ترغيب مالي وسياسي لمكونات من المعارضة السابقة، إلى اغتيالات لسياسيين وضباط وإعلاميين، إلى انتفاضات شارعية ضد حكومة “ثورة الأرز”، وصولاً إلى اجتياح بيروت والجبل في السابع من مايو 2008، ومنذ هذه العملية، وبعد تثبيت سلطته عبر “اتفاق الدوحة”، وضع الحزب وحلفاؤه اليد على السلطة كلياً في لبنان، ولتثبيت هذه السلطة وتطويع لبنان ككيان تابع للمحور الإيراني، واتبع الحزب سياسة الإلغاء مع المكونات الأخرى عبر المؤسسات وعلى الأرض.
الإلغاء
تحت شعار “كلاسيكي” قديم، يشيطن الحزب معارضي مشروعه وسلطته على أنهم “عملاء إسرائيل، وأميركا، والسعودية”. هذا ليضيف ثوباً من مشروعية قمع سياسية فوق آلته الحديدية التي يستعملها في إلغائه الأطراف الأخرى والحريات.
الأمن
بالإضافة إلى استخباراته وأمنه الخاص، يسيطر الحزب منذ 2005، عبر وجود مباشر، أم نفوذ، أو بواسطة الترهيب، على القرار الأمني والدفاعي في لبنان، إذ إن شبكته المباشرة بإمكانها أن توقف، وتعتقل، أو تخفي مواطنين من دون مساءلة من الدولة، أما شبكته غير المباشرة فهي تخترق الأجهزة وتتحكم بالسياسة الأمنية في البلاد. وكما مع “الباسدران” في إيران، الحزب يتحرك “كحرس ثوري” بموازاة القوات المسلحة، ويحدد الاستراتيجيات الأمنية العامة لها، لتثبيت السياسة الإيرانية في لبنان. ومن بين تلك السياسات عدم اعتبار “حزب الله” فصيلاً إرهابياً، بل “مقاومة”، وعدم تطبيق القرارات الدولية، بخاصة القرار 1559، وبالطبع مواجهة أي جهود للسلام في المنطقة، وأخطر السياسات، التدخل العسكري في عدد من الدول العربية.
قمع الثورة
مع انفجار ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 في لبنان، كشف الحزب أكثر عن نفسه كقوة عكسية للثوار والتغيير الديمقراطي، وكحامٍ للمنظومة السياسية المالية الحاكمة. فحشدت قيادة الحزب آلاف الأعضاء وأطلقتهم لضرب المتظاهرين في بيروت ومناطق أخرى من لبنان بهدف كسر الثورة ضد المحور الإيراني، من بيروت، إلى بغداد، إلى طهران نفسها، إلا أن هذه الهجمة كانت بداية المجابهة بين الحزب والثوار، وبشكل عام، مع اللبنانيين.
الاشتباك مع “مقاومة لبنانية”
في السابع من مايو 2008، كانت المصادمة الميدانية الأولى بين “باسدران لبنان” و”المقاومة الشعبية” في لبنان، فاجتاحت الميليشيات المؤيدة لطهران بيروت (المنطقة الغربية)، واحتلتها كالصاعقة، وأحرقت مراكز، وصحافة، وحاصرت مباني حكومية ومنازل سياسيين، وعملياً سيطر الحزب على الحكومة عبر انقلاب ميليشياوي، وقام بهجوم كبير على القرى والبلدات الدرزية في الشوف ليوطد سيطرته على الجبل، لكن كان مصير تلك المعركة مختلفاً عن بيروت الغربية، إذ إن مقاتلي الجبل تصدوا بحزم لمهاجمي الميليشيات وكبدوها خسائر فادحة، فتوقف الحزب عن التقدم وتراجع، وقبل بتسوية “الدوحة” في ما بعد. وكان تصدي الأهالي في الجبل بداية المقاومة الميدانية لميليشيات الحزب، للمرة الأولى منذ عام 1990.
معارضة 2021
هذا العام، وقعت حوادث تشير إلى توسع “المقاومة” ضد ميليشيات “حزب الله” في نقاط عدة من لبنان، بموازاة تصاعد المعارضة السياسية السلمية ضد الحزب. فهذه الأخيرة صعدت في تحركها داخل وخارج لبنان للمطالبة بتطبيق القرار 1559 القاضي بنزع سلاح الميليشيات، بما فيها “حزب الله”. وطرحت هذه المعارضة مشروعاً لسحب الحزب من مناطق لا تؤيده، أي إقامة مناطق حرة غير خاضعة للإيرانيين، في مرحلة أولى، يتولى أمنها الجيش اللبناني، وبالطبع رفض الحزب ترتيبات كهذه بالتراضي، وكثف أعماله الميليشياوية. إلا أن مقاومة ميدانية بدأت تظهر في نواحٍ عدة، وهذه بعض الأمثلة. في بلدة “شويا” الجنوبية، طرد الأهالي الدروز عناصر الحزب وآلياتهم، وفي جرود جبيل (جبل لبنان)، تصدى فلاحون مسيحيون لمقاتلين من “حزب الله” جاؤوا ليسيطروا على أراضيهم، أما في بلدة خلدة على الساحل، جنوب بيروت، فتصدى الأهالي السنة لقوافل “حزب الله” التي دخلت البلدة بسلاحها، وأخيراً، وليس آخراً، قاوم سكان ضاحية بيروت الشرقية في “عين الرمانة” تقدم آلاف العناصر المسلحة للحزب ولـ”حركة أمل” الذين دخلوا شوارع المنطقة وأسقطوا قتلى وجرحى.
خياران
قاعدة الحزب بدأت تشعر أن الميليشيات، وإن كانت أقوى قوة عسكرية على الأراضي اللبنانية، فهي منتشرة على أضعف وأضيق رقعة من الأرض، وشبه محاصرة من قبل سائر اللبنانيين في مختلف المناطق، وإن هدد الأمين العام للحزب حسن نصرالله بأن لديه 100 ألف مقاتل مدججين بالسلاح داخل لبنان، فالشعور العام لدى المحازبين أن هذه “القوة الجبارة” محاصرة من قبل شعبها، بالتالي للحزب خياران، إما أن يتمسك بسيطرته على كل لبنان، ومطاره، ومرفأه، وعاصمته، ووزاراته، ويواجه مقاومة متصاعدة ومتوسعة، تنهكه، وقد تخرجه بالقوة من بعض المناطق تدريجياً، وإما أن يقبل بتسوية مرحلية تقضي بانسحابه من بيروت الإدارية والجبل والشمال وجزء من البقاع، مع المحافظة على وجوده في الضاحية والجنوب وجزء من البقاع، في إطار خطة أمنية يشرف عليها الجيش اللبناني بدعم عربي ودولي، حتى الوصول إلى حل شامل للأزمة في لبنان.
فأي خيار سيأخذ “حزب الله”؟ وهل ستسمح إيران بذلك؟