تمثال وأمثلة.. فلنطرح على أنفسنا تساؤلات حول تاريخنا وماضينا
بقلم: سعد بن طفلة العجمي

النشرة الدولية –

بعد 133 عاماً من نصبه، أزيح تمثال الجنرال الكونفدرالي روبرت لي من ولاية فيرجينيا الأميركية في التاسع من سبتمبر (أيلول) الماضي، وكان التمثال قد شيد العام 1890 تخليداً لذكرى جنرال الحرب الأهلية الأميركية الذي قاتل من أجل الكونفدرالية، رافضاً الجمهورية الفيدرالية الأميركية التي تكون قوانينها ملزمة للولايات كلها، ومن بين التزاماتها إنهاء العبودية وتحرير العبيد السود الذين جيء بهم بالملايين من أفريقيا عنوة للسخرة والعبودية عند البيض. وكان الجنرال لي من رموز ذلك العهد، وجزءاً لا يتجزأ من تاريخ سيطرة البيض المخزية على القبائل الأصلية لتلك البلاد، والانتهاكات النتنة ضد السود من أفريقيا.

في كندا، صدر الأسبوع الماضي حكم قضائي يمهد لتغريم الحكومة الكندية الفيدرالية بلايين الدولارات لأهالي ضحايا المدارس الداخلية ومعظمها كاثوليكية، التي كانت تأخذ آلاف أطفال القبائل الأصلية عنوة من أهاليهم، وتحتجزهم في أديرة لتعليمهم “الدين الصحيح” بتمويل حكومي كندي، وتعرضوا خلال القرنين الماضيين لأبشع الانتهاكات من ضرب واغتصاب وتعذيب وقتل، ودفنوا في مقابر جماعية، اُكتشفت إحداها أخيراً في 24 يونيو (حزيران) الماضي، حيث تم العثور على 751 جثة، وكان اكتشف قبل ذلك الاكتشاف المأساوي بأسابيع، بقايا 215 جثة لـأطفال في غرب كندا.

وقد اعتذرت الحكومة الكندية رسمياً، في العام 2008، عن ذلك النظام التعليمي الجائر وما ارتكب بحق أطفال السكان الأصليين.

كذلك اعتذرت أستراليا رسمياً في العام نفسه، عن ارتكاب سياسة شبيهة بتلك السياسة الكندية المخزية ضد السكان الأصليين من شعوب “الأبوريجني”، إذ كانت تأخذ الأطفال عنوة إلى مدارس داخلية حيث يُضربون ويعذبون ويغتصبون ويمنعون من التحدث بلغاتهم الأصلية.

ولدى اليابان سجل طويل مؤرخ باعترافات بالمسؤولية واعتذارات مختلفة لكوريا وبورما وأستراليا والصين (الأخيرة ما زالت تطلب مزيداً) عن الجرائم التي ارتكبتها الإمبراطورية بحق تلك الدول والشعوب.

حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حضر للمرة الأولى، يوم السبت الماضي، بصفته رئيساً للجمهورية الفرنسية، مراسم استذكار مذبحة قامت بها الشرطة الفرنسية في باريس عام 1961 ضد متظاهرين محتجين على احتلال الجزائر، وألقى خطبة اعترف فيها بالجريمة ودانها.

وعلى الرغم من أنه لم يعتذر للضحايا، وعلى الرغم من أنه حريص على أصوات اليمين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إلا أنه لا يستطيع تجاهل أصوات التعايش والسلم الاجتماعي داخل فرنسا، وصحيح أن أمام فرنسا طريقاً طويلاً من “الاعتذارات” نتيجة جرائمها في الجزائر، لكن هذه الخطوة تعد تطوراً مهما في مسيرة مراجعة باريس تاريخها الاستعماري والتطلع نحو مستقبل أكثر سلماً.

الشاهد هنا أن كثيراً من دول العالم التي تتطلع إلى المستقبل والتعايش بين أبناء شعوبها، وبينها وبين الدول الجارة والصديقة وبين العالم أجمع، تُراجع تاريخها وتعترف بماضيها وبالجرائم التي ارتكبها الأسلاف من أجل المضي قدماً، ومحاولة تضميد جراح الماضي بتعزيز التفاعل مع الحاضر، ورسم خرائط تسامح وتعايش للمستقبل.

صحيح أن التعويضات والاعتذارات لن تعيد للضحايا حياتهم التي فقدوها ظلماً، ولن تمحو من ذاكرة الأحياء تلك الصور والبشائع، وصحيح أن الموتى لن يعودوا، وأن ندوب تلك الجرائم خالدة في ضمائر الإنسانية، ولكن التفكير في مستقبل الأجيال وفي التعايش والتسامح يتطلب مثل تلك التعويضات والاعتذارات والاعترافات.

بعضنا سيقرأ عن تلك الفظائع ليؤكد لنفسه وماضيه أنه ضحية مثل أولئك الضحايا، وأن ماضيه يختلف عن ماضي تلك الأمم والشعوب المجرمة، لكن “من كان بلا خطيئة فليرمها بحجر”.

فلنطرح على أنفسنا تساؤلات حول تاريخنا وماضينا، هل كان أجدادنا وأسلافنا أنبياء أتقياء ورعين لم يرتكبوا جرائم في حق بعض بني دينهم وجلدتهم وضد الآخرين؟ هل كانوا متعايشين متسامحين ومتساوين مع من سيطروا عليهم من الشعوب؟ بل هل نرتكب اليوم جرائم ضد بعضنا في العراق واليمن وسوريا وليبيا وغيرها؟ وهل نمارس التطهير الطائفي والعرقي في حروبنا التي نخوضها من دون هوادة ضد بعضنا اليوم؟

إن كانت الإجابة بإنكار الماضي والحاضر، فلا داعي لطرح التساؤلات أصلاً، أما إن كانت الإجابة بلا، فلنتعلم من الأمثلة، ولنسقط التماثيل والأصنام، ونتخلص من أحمال الماضي وأثقاله وننظر صوب المستقبل.

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى