ملاحظات على الانتخابات العراقية
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

شهد العراق في العاشر من شهر تشرين الأول الجاري انتخابات مبكرة، كنتيجة للأزمة السياسية التي واجهتها البلاد بعد اندلاع احتجاجات تشرين الأول العام ٢٠١٩، والتي أدت إلى استقالة حكومة عادل عبد المهدي، أواخرَ شهر تشرين الثاني من ذلك العام، وقدوم حكومة مصطفى الكاظمي في شهر أيار من العام التالي، والذي وعد بإجراء انتخابات مبكرة استجابة للمطالب الشعبية. وعلى الرغم من إقرار الأمم المتحدة أن الانتخابات كانت نزيهة ولم تشبها حالات غش مهمة، والإعلان المشترك، الذي أكد على تطابق نتائج الفرز اليدوي لتلك الالكترونية، والذي صدر من قبل الحكومة العراقية ومفوضية الانتخابات قبل أيام، تستمر التظاهرات والاعتصامات في المنطقة الخضراء ببغداد، وفي عدة محافظات أخرى، رافضة للنتائج الأولية للانتخابات، التي دعا إليها «الإطار التنسيقي» الذي يضم القوى الشيعية الرئيسة، باستثناء التيار الصدري. وقد يستغرق البت في الطعون المقدمة من قبل مجلس المفوضين والهيئة القضائية أسابيع، قبل إعلان المفوضية العليا للانتخابات النتائج النهائية، فإلى إين يذهب العراق بعد انتخاباته البرلمانية؟

تتضح مشكلة العراق في أن مكونها الديمغرافي والاجتماعي يبرز إلى السطح في إطار تنظيم العملية السياسية في البلاد، وقد تبلورت هذه المشكلة بشكل واضح في السنوات الأخيرة، بعد الغزو الأميركي العام ٢٠٠٣، وإسقاط نظام صدام حسين بالقوة. وفي إطار انقسام ديمغرافي واجتماعي وسياسي تعكسه تشكيلة الأحزاب، وما بين شيعة وسنة وكرد، يعكس النظام البرلماني التوافقي ذلك الانقسام، ويعتمده ضمن نظام المحاصصة، الذي بدأ يتبلور عملياً بعد انتخابات العام ٢٠٠٥. وما يعقد الأمر أكثر في العراق ويضعف بنية نظامه السياسي القائم، القوة المسلحة التي تمتلكها معظم القوى السياسية فيها، فرغم البنية القانونية التي تنظم عمل تلك الأحزاب، يتمرد عمل تلك القوى الفعلية على الأرض على تلك البنية القانونية ويتخطاها، ما يفسر مفهوم النظام الهجين، الذي يخلط ما بين مؤسسات ديمقراطية، وسلطات الأمر الواقع، ليبقى النظام ذا طبيعة مزدوجة. لقد ولد النظام السياسي الحالي في العراق واستمرّ طوال ثمانية عشر عاماً في كنف المليشيات المسلحة، التي ترسّخ وجودها في إطار مقاومة الاحتلال الأميركي والحرب الأهلية ما بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠٠٨ ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش». كما أن الأحزاب في العراق لا تنقسم فقط ما بين شيعة وسنة وكرد، بل إن كل طيف منها ينقسم ما بين اليمين المتشدد واليسار، في علاقة صدامية لا ودية، وتمترس عام وراء الطائفية، بعيداً، عن مفهوم الأمة والهوية الوطنية. كما يعتمد العراق على نظام اقتصادي ريعي، يسيطر عليه النظام السياسي، بما يخدم مصلحة الأحزاب الموجودة على رأسه. ولذلك تعتبر الانتخابات ضمن المنظومة السابقة الآلية الأنسب لضمان مصالحها، وبقائها شريكة في الحكم ضمن نظام محاصصة، كما ستضمن تلك الانتخابات تنظيم علاقة القوى المسلحة، بشكل يضمن عدم انزلاقها لحرب أهلية، لا يريدها الجميع.

حسب تصريح المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لم تتجاوز نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة، في دورتها الانتخابية الخامسة منذ العام ٢٠٠٣، الـ٤١ في المائة، من نسبة السكان المسجلين والبالغ عددهم حوالى ٢٢ مليونا. وتقل نسبة المشاركة أكثر إذا قمنا بحساب نسبة المشاركة في الانتخابات مقارنة بعدد العراقيين البالغين، والذين يحق لهم التسجيل والانتخاب، إذ يتجاوز عددهم ضمن تلك المعطيات الـ٢٦ مليون عراقي. وقدرت بعثة المراقبة التابعة للاتحاد الأوروبي أن نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات قد بلغت ٣٠ بالمائة فقط، وقدرتها مصادر أخرى بـ٣٧ بالمائة. وعكست نسبة المشاركة الضعيفة عدم ثقة المواطن العراقي في أداء البرلمان، الذي فشل في كبح جماح الفساد المستشري، وسوء الإدارة والمحسوبية. ولم تخدم المقاطعة الكبيرة للانتخابات أهداف المحتجين، حيث فضل ثلثا العراقيين الذين يحق لهم الانتخاب عدم المشاركة، فجاء ذلك في مصلحة الأحزاب والكتل التقليدية، ذات الجمهور الثابت، ولم يحصل هؤلاء المحتجون إلا على ٢٠ مقعداً فقط من مجمل مقاعد البرلمان الـ٣١٩، ما يستحيل معه إحداث فارق كبير في سياسة البلاد من داخل البرلمان.

تشكّل الأفقُ السياسي لثورة تشرين على أنها ثورة إصلاحية ضمن المسار السياسي القائم ومصدر الشرعية الراهن، إذ لم تناد بإسقاط النظام، ما يفسر مطالبة طيف واسع من المحتجين بـ”الانتخابات المبكرة”، و”إصلاح القانون الانتخابي”، و”إصلاح مفوضية الانتخابات”. وفقدت الحركة الاحتجاجية زخمها خلال العامين الماضيين، بسبب استخدام أساليب الترهيب والعنف وعمليات الاغتيال والاختطاف ضد عناصرها وتياراتها، وعدم امتلاكها خارطة إصلاحية سياسية واقتصادية واجتماعية محددة، كما أنها لم تقدم أي بدائل لما هو موجود، ما مكن القوى السياسية من تجاوز مطالبها والتحايل عليها. واكتفت القوى السياسية بإجراء تعديل قانون الانتخابات، وقامت بأقلمة نفسها لخوض الانتخابات وفق معطياته الجديدة، لتضمن بقاء النظام على حاله. وعلى الرغم من أن هذه القوى هي من أقرت تعديل قانون الانتخابات الذي يحظر امتلاك الأحزاب للسلاح على سبيل المثال، لا يزال معظم هذه القوى يمتلك السلاح. وعلى الرغم من أن القوى السياسية قبلت بتشكيل مجلس جديد للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات مكون من قُضاة مستقلين، إلا أنها أحالت عملية ضبط سلوك هؤلاء القضاة إلى مجلس القضاء الأعلى المرهون وجوده بقبول تلك القوى، وعلى نحو يضع سقفاً واضحاً لقدرته وقدرة مجلس المفوضية على إحداث إصلاح في قواعد اللعبة الانتخابية، مع بقاء البرلمان الذي تُهيمن عليه تلك القوى المتحكم بأي تشريع من شأنه إضعاف هيمنتها السياسية.

حصد التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر على ٧٣ مقعداً، بزيادة ١٩ مقعداً عما حققه في انتخابات العام ٢٠١٨، وضعف ما حققه أقرب المنافسين إليه، وأكثر من ٤٠ في المائة من مجموع مقاعد الشيعة أحزاباً ومستقلين. وقد نجح الصدر بحصد مقاعد أكثر بكثير من تلك التي كانت متوقعة، مستغلاً القانون الجديد وتأقلمه مع معطياته، والمقاطعة الجماهيرية الواسعة، في ظل وجود شريحة انتخابية ثابتة وداعمة له. شارك الصدر في هذه الانتخابات لأول مرة تحت مسمى “الكتلة الصدرية”، بعد أن كانت في انتخابات سابقة، “كتلة الأحرار” و”حزب الاستقامة” و”تيار سائرون”، للتأكيد على هويته، وتميزها عن الفصائل التي انشقت عن تياره، والتي تنافسه على الإرث “الصدري”، مثل “عصائب أهل الحق” و”حركة حزب الله”، ليوظف ذلك خلال حملته الانتخابية لمصلحته. وأطلق حملة “البنيان المرصوص” كإحدى استراتيجياته لخوض الانتخابات، وفق معطيات محسوبة، تتناسب مع قانون الانتخابات الجديد، وتضمن حشد أنصاره. وركز الصدر في خطابه الانتخابي على “الإصلاح” و”العدالة”، على اعتبار أن تياره أقدر على تحقيق الإصلاح السياسي، بعد تحوله من تيار راديكالي ثوري إلى آخر براغماتي سياسي، وعلى أساس أن هويته الدينية تؤهله لتحقيق العدالة والإصلاح أكثر من غيره. لم يقدم الصدر خارطة إصلاحية محددة وواضحة، وتصادمت كتلته مع المحتجين، وتواجد نفوذه في العديد من الوزارات والمؤسسات الحكومية، ما يجعلنا نشك بأن ما يعرضه مجرد مبادرات شكلية حتى الآن.

بموجب الدستور، سيكون على الصدر تشكيل الحكومة الجديدة، إلا أنه لم يحصل على الأغلبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة منفرداً، ما يوجب عليه بناء التحالفات. وهيمن تحالف “تقدم”، الذي يتزعمه رئيس البرلمان المنصرف، محمد الحلبوسي، على أكثر من نصف المقاعد التي حصل عليها السنَّة مجتمعين أحزاباً أو مستقلين، بعد حصده ٣٨ مقعداً، كما حصد الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني ٣٤ مقعداً، مقارنة بـ٢٥ مقعداً حصل عليها العام ٢٠١٨، وثلثي عدد مقاعد الكرد مجتمعين. ويمكن للصدر أن يتحالف مع الحلبوسي والبرزاني والاحتجاجيين لتشكيل أغلبية مريحة عابرة للطائفية، وتحظى بتأييد الشارع، إلا أن ذلك سيعزل القوى الشيعية المعترضة على نتائج الانتخابات، ويزيد من فرص الصدام معها. ويعتبر الصدر شخصية عقلانية وبراغماتية لا تميل لخوض نزاع مع الميليشيات المسلحة، ما يرجح العودة لنظام المحاصصة وتوزيع الغنائم.

وخسر «تحالف الفتح»، الإطار السياسي لمليشيات «الحشد الشعبي» حوالى ٢٨ مقعداً عن الانتخابات الماضية، بعد أن حصد في هذه الانتخابات ٢٠ مقعداً بعد أن كانت مقاعده ٤٨. وقد يكون أحد أهم أسباب هذا التراجع تشرذم قادة المليشيات المكونة للتحالف والتنافس في ما بينها، وهي تحمل نفس الخطاب السياسي، وتحشد ضمن نفس شريحة الناخبين. ويبدو أن الإعلان الرسمي عن إطلاق تسمية “حشد العتبات المقدسة” على الفصائل المسلحة الأربعة التي أعلنت في شهر نيسان من العام الماضي انفصالها عن الحشد الشعبي العراقي، والذي دعمه السيستاني ودعمته كذلك قوات سرايا السلام التابعة للصدر، يشير إلى أن المرجعية الشيعية في النجف قد قررت أن تلقي بثقلها لاستعادة الدولة ومنع تكرار النموذج الثوري الإيراني أو اللبناني في العراق. كما أن دعوة السيستاني لتابعيه للمشاركة في الانتخابات، وتوجيه الأصوات، لا تخرج عن ذات السياق.

لقد جرت الانتخابات العراقية وفق شروط إجرائية وتقنية أفضل من سابقاتها، ووفق نظام انتخابي أكثر انفتاحاً لصعود فاعلين جدد، إلا أنها جرت وفق شروط صبت في مصلحة القوى التقليدية وذات الأذرع المسلحة والإمكانات المالية الكبيرة، والتي تضمن عدم خروجها من الساحة السياسية. لذلك ليس من المتوقع أن تحدث النتائج تغيرات كبيرة، خصوصاً عندما نعلم أن إيران تهتم ببقاء الحشد الشعبي، كأحد وسائل الحفاظ على نفوذها في العراق، ولا ترى في الصدر عدواً، كما أنها لا ترغب بانفجار الأوضاع في العراق، كما لا يرغب بذلك الصدر أيضاً، خصوصاً بعد التقارب الذي بدأ بينها وبين دول الخليج في المنطقة، بوساطة عراقية. كما أن الولايات المتحدة التي تحتفظ بـ٢٥٠٠ جندي في العراق، وتعول على بقائهم إلى حين، لدعم بقاء القوات الأميركية المنتشرة في شرق سورية، تأمل بالتخلص من القوى المسلحة، إلا أنها لا تفضل ذهاب العراق لانفجار دموي جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى