الفساد والقانون والسياسة.. صراع ثلاثي يهدد التعددية الإعلامية في تونس
النشرة الدولية –
لطالما تفاخر الصحفيون في تونس بحرية الإعلام بعد الثورة، لكن الأمر بدأ يتغير مؤخرا بتوالى غلق قنوات تلفزيونية خاصة. وبينما يقول متضررون إن الأمر “سياسي” تقول “الهايكا” إن تلك القنوات لا تحمل ترخيصا ومخالفة للدستور.
امتثالا لقرار الهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري “هايكا” (HAICA)؛ توقف بث قناة “حنبعل” مع انتصاف ليل الجمعة 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، بدعوى أنها مخالفة للقانون ولا تحمل ترخيصا، علما بأن “حنبعل” هي أول قناة تلفزيونية خاصة تأسست في تونس قبل ثورة 2011.
وقبل قناة حنبعل تدخلت قوات الشرطة لوقف بث قناة “نسمة ” الخاصة، التي يملكها رجل الأعمال نبيل القروي، الملاحق قضائيا في قضايا فساد مالي، وتم التحفظ على معدات القناة ووضع الشمع الأحمر على مقرها لنفس الأسباب.
وفيما يشبه حملة، أوقفت السلطات كذلك بث قناة إذاعية خاصة “القرآن الكريم” وقناة الزيتونة الخاصة، لتحيل بذلك المئات من الصحافيين على بطالة قسرية في ظرف اقتصادي ومالي صعب تعيشه تونس، يضاف إلى الأزمة السياسية المعقدة؛ بسبب إعلان الرئيس قيس سعيد التدابير الاستثنائية في البلاد والسارية منذ تاريخ 25 تموز/ يوليو الماضي.
عملية لي ذراع بين الهايكا ومؤسسات الإعلام
ويعكف صحافيو “حنبعل” بشكل مؤقت على العمل بموقع “الويب” الخاص بالقناة في انتظار ما ستفرز عنه الأزمة مع هيئة الاتصال. ولكنهم لا يخفون خشيتهم من شبح البطالة. ويقول محمد علي العياري، رئيس تحرير قسم الأخبار بقناة “حنبعل”، في حديثه لـDW عربية إن “المؤسسة قررت الامتثال لقرار هيئة الاتصال في بادرة حسن نية تمهيدا للبدء بمفاوضات وتسريع عملية التسوية”.
لكنّ العياري أشار إلى أن القناة كانت بادرت بتسوية وضعها القانوني مثلما طالبت بذلك “الهايكا” وقامت بتصفية ديونها، وتحولت القناة إلى شركة خفية الاسم ولكن هيئة الاتصال أصرت على تطبيق قرار الغلق كشرط مسبق قبل التفاوض.
وينسحب الأمر نفسه على قناة “الزيتونة” الخاصة، حيث تقول الهيئة إن القناة تعمل منذ سنوات من دون ترخيص ومخالفة للقوانين لأن مؤسسها أسامة بن سالم هو أحد قيادات الحزب الحاكم سابقا، حركة النهضة الإسلامية، وفي ذلك مخالفة للقوانين المنظمة للقطاع.
لكنّ لطفي التواتي مدير القناة وفي حديثه لـDW عربية أوضح أن “قرار الغلق سياسي بامتياز وينطوي على عداء أيديولوجي”، مضيفا أن “القناة سبق وأن قدمت ملفا كاملا لتسوية وضعيتها بعد استقالة المؤسس أسامة بن سالم وسحبه لأسهمه”.
وتعرف القناة، القريبة من تيار الإسلام السياسي، بانتقاداتها للتدابير الاستثنائية وتجميد الرئيس قيس سعيد للبرلمان وتعليقه معظم مواد الدستور ومن ثم توليه أغلب السلطات تمهيدا لإصلاحات سياسية لنظام الحكم والقانون الانتخابي، حسب ما أعلن الرئيس. وكان أحد مذيعي قناة الزيتونة قد اعتقل وأحيل على القضاء العسكري بعد أن ردد على الهواء مباشرة قصيدة ساخرة تضمن انتقادات مبطنة للرئيس.
“أبواق دعاية سياسية”
منذ سنوات والصحافيون في تونس يفاخرون بحرية التعبير، كأحد أبرز مكاسب ثورة 2011. لكن هذه الحرية لم ترافقها تنظيما سليما للقطاع الإعلامي الخاضع حتى الآن للمرسوم 116 الصادر عام 2011، بجانب الخشية المستمرة من أن تحصل ارتدادات إلى الوراء.
وتوجه انتقادات لهيئة الاتصال كونها استنفدت أسباب وجودها القانوني ولم تجدد نصابها في الآجال القانونية مثلما يشير الدستور في أحكامه الانتقالية. كما يحدد المرسوم 116 المدة القصوى لولاية أعضاء الهايكا وهي ست سنوات، بينما تجاوز أغلب الأعضاء هذه المدة. وينظر لها معارضوها على أنها فاقدة للشرعية.
لكن عضو الهيئة هشام السنوسي يرد على تلك الاتهامات في حديثة لـDW عربية قائلا إن “وضع الهايكا لا يختلف عن أغلبية الهيئات الدستورية المعلقة في تونس”، وهو يلقي باللائمة على البرلمان، الذي تأخر في سن قانون أساسي حتى تكون هناك هيئة تعديلية مثل كل الدول الديمقراطية. ويوضح السنوسي “اختارت بعض الأحزاب في البرلمان أن تدفع إلى الفراغ عن قصد حتى تمهد لقنوات أجنبية وخليجية للانطلاق في تونس”.
وفي رده على الاتهامات بتحول الهايكا إلى أداة للتضييق على وسائل الإعلام وضرب التعددية مع اصرارها بتطبيق قرارات الغلق، يشير السنوسي إلى أن “هذه المؤسسات هي أول من ضرب التعددية لأنها تعمل لحساب أحزاب سياسية بعينها وهي حركة النهضة الإسلامية (قناة الزيتونة وحنبعل) وقلب تونس (قناة نسمة) وحزب الرحمة (إذاعة القرآن الكريم). وامتلاك أحزاب لقنوات هذا أمر ممنوع بالقانون مثلما هو سائد أيضا في ديمقراطيات عريقة كألمانيا”.
تركز هيئة الاتصال في مآخذها على أداء وسائل الإعلام التي شملتها قرارات الغلق بجانب مخالفاتها القانونية، أنها تورطت في ممارسة الدعاية السياسية خلال الانتخابات الأخيرة في 2019 وأن هذا الأمر تسبب في ظهور نتائج غير نزيهة للانتخابات، وفق تقدير السنوسي.
مع ذلك يقول عضو الهيئة إنها مستعدة للبحث عن حلول إذا رفعت الخروقات، غير أنه أشار إلى أن بعض القضايا المتعلقة بهذه المؤسسات تخضع إلى محاكم القطب المالي. ولكنه في نفس الوقت نبه إلى وجوب الفصل بين تطبيق القانون والتعددية الإعلامية حتى لا يتحول “الفساد إلى بوابة للتعددية”، وفق تعبيره.
الصحافيون الحلقة الأضعف
وفي كل الحالات يقول الصحافيون إن الأزمة تسببت في وضع مربك لهم وأنهم وحدهم في نهاية المطاف من يدفعون كلفة الصراع المتحد منذ سنوات بين الهيئة ووسائل الإعلام لأنهم باتوا مهددين بفقدان موارد رزقهم في وضع يتسم أصلا بالهشاشة المهنية والاجتماعية، إذ يعاني أغلبية الصحافيين من تدني الرواتب وافتقادهم الى ضمانات إجتماعية.
ويقول عبد الرؤوف بالي، عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين التونسيين، لـDW عربية إن النقابة ليست ضد تطبيق القانون لكن كان من الممكن تأجيله لأنه يتوافق مع ظرفية سياسية خاصة والتأويل السياسي سيطرح نفسه بالضرورة خلف هذا القرار”. ويضيف بالي في تعليقه “في نفس الوقت نحن ضد الغلق من حيث المبدأ لأن المؤسسات الإعلامية لها قيمة اعتبارية. دور الهايكا هو البحث عن حلول من أجل تطبيق القانون وليس دفع المؤسسات إلى الخروج الكامل عن القانون لأن بعض القنوات يمكنها البث من خارج البلاد، عوض الالتجاء إلى الحلول السهلة والمكلفة في نفس الوقت لأنها تضرب التعددية الاعلامية”.
ويرى بالي أن الهيئة كان يمكنها أن تلعب دور أكبر من مجرد إصدار قرارات الغلق كأن تفرض على مؤسسات الإعلام تطبيق كراس الشروط الخاص بعمل الصحافيين من أجل التصدي لظاهرة التشغيل الهش. ويضيف عضو النقابة بمرارة “المتضرر الوحيد في القطاع هم الصحافيون والعاطلون الذين يزاد عددهم اليوم. الأساس هو أن نحافظ على مواطن الشغل”.