الهيمنة الإيرانية تقطع شرايين لبنان العربية
بقلم: طوني فرنسيس

استعادة العلاقات الطبيعية مع السعودية ودول الخليج تحتاج تغييراً في نهج السلطة في بيروت

النشرة الدولية –

على مدى ما يقارب ثلاثين عاماً، بنت إيران هيكلاً سياسياً وأمنياً مذهبياً لها في لبنان. في النصف الأول من هذه السنوات الطويلة فعلت ذلك ضمن اتفاق دقيق مع النظام السوري، أرساه في منتصف الثمانينيات الرئيسان حافظ الأسد وهاشمي رفسنجاني، قضى بجعل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من لبنان في حينه حِكراً على الجهاز الذي أسسه الحرس الثوري الإيراني تحت اسم “حزب الله”، وقضى من جهة ثانية بتسليم السوريين السلطة السياسية والإقتصادية تديرها بمعية نخبة من اللبنانيين اختارت أفرادها الاستخبارات السورية، وولتها عمل المؤسسات العامة ومواقع السلطة على اختلافها .

عاشت هذه السلطة المزدوجة طويلاً تحت أنظار العالم جميعاً. تحول “حزب الله” منذ 1992 إلى حزب سياسي له نوابه في البرلمان، فيما واصلت الأجهزة السورية التحكم بالبلاد إلى أن جرى اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري وما أعقبه من انسحاب سوري من لبنان .

كان اغتيال الحريري خطوة رمزية كبرى نحو المصير الذي ينتظر لبنان. سبقه وأعقبه سلسلة اغتيالات طالت شخصيات سياسية وثقافية وإعلامية في عملية يسهل إدراجها في سياق وضع اليد على البلد وإيصاله إلى الموقع الذي هو فيه اليوم .

جعل الانسحاب السوري من “حزب الله” بديلاً لسلطة قوات الأسد، وبمساعدة سورية عاد الجنرال ميشال عون من منفاه الباريسي ليترأس كتلة نيابية كبيرة، ويقيم تحالفاً مع خليفة السوريين سيوصله إلى رئاسة الجمهورية.

وفي تلك اللحظة كان الإيرانيون يعبرون عن سعادة لا توصف. قالت “كيهان” بفوز إيراني في الرئاسة، وتحدث الجنرال قاسم سليماني عن فوزه بأكثرية نيابية في المجلس التشريعي اللبناني .

انتقل لبنان عبر سلسلة التوترات والمساومات الداخلية ووسط انشغال عربي ودولي بمسائل إقليمية ودولية، ليتحول إلى بقعة نفوذ إيرانية محكومة بأحد جيوش إيران الخارجية الستة.

ومع ازدياد التوغل الإيراني في شؤون البلدان العربية كانت الحاجة تزداد إلى الإمساك بمواقع السلطة في تلك البلدان. وفي تزامن مُلفت (2014- 2015) برز الحشد الشعبي في العراق كشريك مضارب في السلطة، ونفذ الحوثيون انقلابهم في اليمن، وأوصل “حزب الله” في لبنان مرشحه إلى موقع رئاسة الجمهورية، ليتحكم لاحقاً في تسمية رؤساء الحكومة وتشكيل الحكومات وإقالتها .

كان نموذج لبنان التجربة الإيرانية الأنجح والأكثر تميزاً. فخلال سنوات قليلة تحولت بيروت إلى مقر إعلامي وسياسي وعسكري لكل الفصائل التي تقودها وتمولها أجهزة النظام الإيراني. منها تبث قنوات الحوثي وفصائل عراقية ومحطات إيرانية، وعبرها يمر ويقيم مقاتلون ومتدربون، ومنها تنطلق كتائب “حزب الله” لتقاتل إلى جانب نظام الأسد في سوريا، ولتساعد الحشد العراقي ومقاتلي الحوثي في اليمن، وفي كل تلك البقاع تصطدم مباشرة بدول عربية أساسية، فتخوض ضدها حروباً يتم شرح “ضرورتها الوطنية والإسلامية” في خطابات حربية من على منابر العاصمة اللبنانية وسط تواطؤ رسمي على أعلى المستويات، وعجز سياسي عام يتيح مزيداً من الإمعان في إلحاق سياسة لبنان الرسمية بما يسمى محور الممانعة الإيراني في مهمته الأساسية: معاداة السعودية ودول الخليج العربي ….

لا تكمن مشكلة لبنان الحالية مع السعودية ودول الخليج في الدور الذي يلعبه “حزب الله” فقط كتنظيم يتبع لإيران في لبنان، فعلى مدى سنوات أبقت الرياض والدول المذكورة، على الرغم من وجود الحزب المذكور ومواقفه المعادية لها، على علاقات تعاطف ودعم للبنان وشعبه، لم تهتز  إزاء هجمات الحزب وحملاته، لكن المشكلة كبرت وتفاقمت إثر التحاق تيار رئيس الجمهورية بالسياسة الإيرانية، وتحويل الدولة بمواقعها المركزية إلى مراكز نفوذ للسياسة الإيرانية، وهذه من المرات النادرة التي ينجرف فيها موقع الرئاسة اللبنانية في سياسات معادية للسعودية وما تمثله، ومؤيدة ومتعاطفة مع المشروع الإيراني ومنتجاته على امتداد المنطقة.

لقد تحول لبنان الرسمي في ظل حكومات عاجزة يتولى إنتاجها الفريق الذي يقوده “حزب الله” إلى مدافع عن السياسات الإيرانية في المحافل العربية والدولية، ومنبر إعلامي وسياسي ضد من يواجه هذه السياسات، وفي الجانب الأسوأ إلى معبر مفتوح للمخدرات على أنواعها إلى موانئ الجزيرة العربية .

لم تعد المشكلة في وزير فصيح لا يفعل سوى تبني سياسات من أعطاه المنصب، بل في نهج كامل تمارسه سلطة أذلت شعبها وهي بالتحاقها الإيراني تمنع عنه احتمالات الإنقاذ.

 

إن لبنان يعيش اليوم أزمة لا تتصل بسلوك مسؤول أو آخر. فالتحاق حكامه الفاسدين بالمحور الإيراني كان من نتائجه قمع الانتفاضة الشعبية والإمعان في إغراق اللبنانيين في الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمالي، وهذا الالتحاق بالذات قاد لبنان لأن يكون في قطيعة مع أبرز داعميه الواقعيين إذا أراد الخروج من أزمته.

إذاً المشكلة أكبر من وزير وحتى لو استقال وزير الإعلام اللبناني الذي فجرت تصريحاته المشكلة الأخيرة، أو استقالت الحكومة بكامل أعضائها، فإن شيئاً لن يتغير إذا بقيت التوازنات الداخلية القائمة على رجحانها لمصلحة إيران، وسط ممارسات مصلحية وشخصية ينتهجها سياسيون يسعون إلى مكاسب خاصة على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية في عمقها العربي .

لقد تبنت إيران صراحةً الدفاع عن وزير الإعلام اللبناني وتصريحاته ضد السعودية ودولة الإمارات. وكالة “فارس” الرسمية أعدت تقريراً بعنوان “تضامن عربي واسع مع قرداحي” وفيه إن “الوزير البطل جورج قرداحي يرفض الاعتذار أو الاستقالة !”، أما وكالة “مهر نيوز” فخصصت مقالاً خلصت فيه أن “الهدف الأساسي هو إسقاط الحكومة اللبنانية … بسبب دسائس السفارة الأميركية “….

إيران تتبنى قرداحي والحكومة. هذا لم يعد سراً وليس حباً بلبنان أو حرصاً عليه. إنه أحد ساحات معاركها ضد العرب وفي التفاوض مع أميركا، وحرصها على حكومة لبنان ووزير إعلامها من حرصها على توفير أدوات المعركة والتفاوض، أما حل اللبنانيين لأزمتهم، في بلدهم ومع الآخرين، فقضية أخرى عليهم معالجتها في أسرع وقت .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى